ثلاثة أيام مع السنوار في معبار الرملة
شموع مضيئة في سجون الاحتلال المظلمة .. (1)
بقلم: أحمد ثابت
بعد سنوات عديدة قضيتها في سجون الاحتلال, تعتبر من زهرة العمر وأجملها, وكانت بحمد الله وبصدق أجملها وأنفعها وأفضلها, عندما أتذكر سنين السجن الخوالي, وأتذكر الرجال الرجال الذين حباني الله بإلقاء معهم, أشعر بعزٍ وفخار, أشكر الله على هذه النعمة رغم القيد والتعذيب وفراق الأهل والأحبة,معاناة وألم, ولكنها بصحبة القمم الباسقة في هذه الأرض المباركة, تُنسيك ما أنت فيه وتدخلك في عالمٍ لم أكن لأحياه لولا هذه الشموع المضيئة.
أتذكر وأنا أضحك والدتي الحبيبة أمد الله في عمرها, عندما أقول لها كم كنت فرحاً في اعتقالي, تستنفر وتعبس وكأنها شخصٌ آخر, كيف لا وهي أم, كما كل الأمهات اللواتي ضحين وقدمن ثمرة حياتهن لهذا الدين, ومن أجل هذه الأرض الطاهرة, ولكنها يا أمي الحبيبة كانت أياماً سعيدة, أيام عزٍ وفرح وفخر وشموخ , كل كلمة أعنيها وشعرت بها بمعية هؤلاء العظام, الشموع المضيئة.
لقد أكرمني الله بالاعتقال وبحمده سبحانه وتعالى,هو منحه لمن جعل رضاء الله غايه وجائزة , و إذا صدف وتقابل مع هؤلاء النجوم, إنهم النجوم بحق من يتشرف الإنسان وبفخر أنه قابلهم, أنه حاورهم , أنه عاش وأكل وشرب وقرأ وحفظ معهم,كنت أسمع عن العديد منهم, أقرأ عنهم في الأخبار, في كتب المقاومة وأساطيرها, حفظة أسماء العديد منهم قبل أن ألقاهم أو أعرف أن قدر الله سيجمعني بهم وما أجمله من لقاء.
"معبار" العذاب والإنتقام
أول من أفتتح بذكره هو أقل من قابلت منهم وأكثر من أثر فيي وفي تفكيري, جلست معه فقط 3 أيام في "معبار" سجن الرملة *, ذهبت إليه أثناء توجهي للمحاكمة فلابد على كل أسير أن يمر به, وعندما دخلت الغرفة تفاجأت برجل كساه الشيب ,وخطوط الزمن كان لها الأثر على وجهه المنير, سمعت عنه كثيراً عندما كنت بصحبة أحد أصدقائه,الأسير توفيق أبو نعيم " أبو عبد الله" فك الله أسره, كان يطيل الكلام عنه ويتذكر المواقف المضحكة التي مرت بهم أثناء بداية العمل في حركة حماس,لذلك كنت أعرفه, والحمد لله الذي كرمني بلقياه إنه الأسير القائد يحيى السنوار, رجل بمعنى الكلمة وقائد قل نظيره, عندما كنت أقرأ في الكتب أو المقالات, وأشاهد هذه الكلمات التي ذكرتها من رجل وقائد وجبل شامخ من الأخلاق والتواضع والعلم المستنير,كنت أقول عندما أشاهد الكلمات السابقة وهي تكتب وتقال في الكتب والخطابات ربما مبالغه!.. أو ربما أسلوب, ولكنه مع هذا القائد, فهي أقل ما يقال عنه.
بدأ القاء المؤثر عندما دخلت عليه في الغرفة وكانت صغيرة ولكنها كعادة العذاب الذي تمارسه إدارة السجون وضعوا فيها خمسه وهي لا تتسع لواحد فقط, ورغم ذلك كانت برفقة هذا الرجل جنة على الأرض, دخلت وتعرفت عليه وعرفته على نفسي, أخبرته أني في غرفة صديقه, دائم التحدث عنه, فضحك ضحكة كبيرة وضمني وقال لي : "أنت من ريحة الحبايب", جلست معه وتكلمنا بأكثر من موضوع.
موقف الكرامه وأثر القيادة ونزيف الدم
ولكن أكثر ما أخجلني منه وعرفني حقيقة القيادة ومعانيها, حالة تحصل معي كثيراً بسبب " البوسطات"* وما يمر فيها من ساعات طويلة في السفر والإرهاق وأنت مكبل بالقيود بالرجلين واليدين, وعندما أصل للغرفة, أو أعود للسجن, يبدأ نزيف دم من أنفي وبشكل كبير, وكعادتي محتاط لهذا الأمر, وعندما بدأ بالنزول, أسرعت لمكان الماء وأحاول أن أقطع النزيف, ومع أكثر من شخص يساعدوني, ولكن منعهم الأخ الكبير يحيى وضل واقفاً على الباب يعطيني المحارم, ويحاول أن يضع الماء على رأسي, ويتحرك يميناً وشمالاً من أجل أن يساعدك, وأنا أشعر بالخجل أكثر وأكثر مما أراه منه, وأدعو أن يتوقف النزيف, من شدة ما قدمه وما تعبه معي رغم معاناته من السفر وسوء المعامله, ورغم ذلك يأبى إلا أن يساعد ويقدم للصغير وهو الكبير في عمره ومقداره.
كانت إدارة السجون قد أخذت قرار منذ فترة طويلة بعدم استقرار عدد من الأشخاص في السجون, وكل 3 إلى 4 أشهر ينقلونهم من سجن لسجن آخر, من أجل التسبب بمزيد من المعاناة والألم, وليشعروا بعدم الاستقرار, فلا يجلسوا ويفكروا ويبدعوا, هكذا الحل عند إدارة السجون!
حقيبة النور
وهذا ما كان يحصل مع القائد الأسير يحيى السنوار, ولهذا شاهدناه في "معبار" سجن الرملة, كان يحمل معه عدة حقائب, عندما فتحها تفاجأت أن أغلب ما تحتويه هو الكتب, وخاصة كتب السياسة وكتب عبرية, وكان يحمل معه مواد غذائية, احتياطاً في حال تم نقله للعزل , تساعده لسوء الطعام المقدم, ولكنه أخرجه جميعه وفتحه وقدمه لنا.
تشاهد في وجهه نوراً, متواضع بدرجة كبيرة جداً, عندما ينطق بالكلمة, تشعر أنها خرجت من ميزان وليست من لسان, ينظر إليك بابتسامه خفيفة تفتح القلوب, وبصوت هادئ متزن ليفتح العقول معه, يتكلم فتشعر بأنك في عالمٍ آخر, كأنك مع كتاب ممتع شيق, مليء بالمعلومات والأفكار وتريد أن تنهل منه ما تستطيع.
إنه يحيى السنوار, أحد قادة حماس ومؤسسي عملها العسكري والأمني, وقالها عنه الصهاينة: " نحن نخاف من عقل وتفكير يحيى السنوار", هذا ما يقوله عنه الصهاينة, وقلت ما شاهدته فيه ليكون معبراً عن قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )).
والحمد لله رب العالمين الذي أكرمني بلقاء هذا القائد والتشرف بالكلام معه.. وموضوعي الثاني بإذن الله عن الأسير القسامي القائد محمد عرمان فك الله أسره.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*معبار سجن الرملة": مكان لتجميع الأسرى أثناء نقلهم للمحاكمات من سجونهم أو لنقلهم من سجن لآخر فيتم جمعهم في هذا السجن.
"البوسطات": عبارة عن باصات لنقل الأسرى وهي عبارة عن زنازين عذاب متنقلة مكسوة بالسواد وتمنع مشاهدة الخارج, وتكون داخلها رغم طبيعة صنعها كزنازين ولكن تقيد فيها أيضاً طوال ساعات الرحلة من الرجلين واليدين.