لغة الحوار في القرآن الكريم هو جزء من موضوع كامل عن منهج الحوار في القرآن الكريم ،وأحتاج هنا أن أفكك عناصر العنوان وأقف عليها عنصرا عنصرا لنخلص بعد ذلك إلى التبريرالعلمي والمنهجي لاختيار هذا الموضوع . ولنسأل لماذا الحوار ولماذا القرآن ولماذا اللغة.
إنني اعتبر البشرية كلها تعيش اليوم أزمة حوار حقيقي وأتصور أن كثيرا من المشاكل و الصدامات الدامية التي تدفع البشرية ثمنها كان ممكنا أن تتجنب أصلاً أو يخفف أثرها أو تقل سلبياتها لو لجئ إلى الحوار واستنفذت أغراضه ووسائله.
والأمة الإسلامية تعرف عمودياً وأفقياً أزمة حوار حقيقية، أزمة علاقة بين الحاكم والمحكوم ، أزمة علاقة بالمستوى الأفقي بين عناصر المجتمع المدني من مختلف جوانبه وتوجهاته الإجتماعية والسياسية ، أزمة علاقة فيما بين الأنظمة على مستوى العالم العربي والإسلامي ، أزمة علاقة بين التيار القومي والتيار الإسلامي والتيار العلماني ، وهناك أزمة تنزل إلى مستوى الأسرة فيما بين الزوج والزوجة وما بين الزوجين والأولاد لغياب الحوار. فالحوار رئيسي وضروري وممر استراتيجي لحل هذه الأزمة، أزمة الاختلاف والصدام السلبي التي نعيشها اليوم.
أما القرآن فإنه يمثل القاسم المشترك أو الكلمة السواء بين المسلمين، وأول شروط الحوار الناجح أو على الأقل كي لا يرتد إلى انتكاسة أسوأ من الخلاف الأول ، أن ينطلق المتحاورون من قاعدة وأرضية مشتركة ، والقرآن هو المنطلق الذي يمكن للمسلمين أن يعودوا ويحتكموا إليه.
أما محورية اللغة فلأن النص القرآني أساساً هو نص لغوي أنتج باللغة العربية وفق قواعدها ومحكوم بضوابطها وينتهي إلى مآلاتها اللغوية ، وهذا اختيار الله عزّ وجل وليس هذا تحكم من أحد. فالله تعالى اختار أن يتواصل مع البشر بهذه اللغة. وهذه اللغة لابد أن تتكون وتتشكل في محيط واقعي ﴿وماأرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم﴾ فلا بد إذن أن يكون النبي يتكلم بلسان قومه، فكان القرآن باللسان العربي، وبالتالي خضع القرآن الكريم لآليات هذا اللسان وضوابطه في الاستنباط فكانت هذه الأرضية الصلبة للتأويل.
أرضيتان صلبتان في القرآن. متنه ولغته، وقد أجمع علماء اللغة المسلمون أن القرآن نازل بلغة العرب خاضع لسننها في الأداء ، ومن هنا لم يجد السلف حرجاً في أن يخضعوا تأويل القرآن لضوابط اللغة . لأن اعتماد بعض الانتقائيين على معاني القرآن مباشرة دون اعتماد قوانين اللغة يؤدي إلى السقوط في تضارب وتعارض يجتهد الأصوليون والمجتهدون بآليات درء التعارض بين النصوص لحلها.
وسأتناول بالبحث عنصرين من بين سبعة عناصر يمكن أن تعتبر أهم المؤشرات اللغوية الدلة على الحوار ومستوياته ومقاصده وأخلاقه ومنهاجيته في القرآن الكريم. ولنبدأ بالعنصر الأول ولنطرح السؤال التالي: هل القرآن الكريم دعوة إلى الحوار، أم دعوة إلى التبليغ التلقيني المتعالي، أم دعوة إلى الإقصاء الذي هو عكس الحوار؟ كيف نثبت ذلك لغوياً باللغة المحضة، باللغة كمادة موضوعية محكومة بقواعد بعيدا عن التأويليه والانتقائيه؟
يقرر بعض المفكرين أن القرآن الكريم ما ادعى دعوى إلا كان له من نفسه عليها دليلاً . أي أن القرآن مستغنٍ بذاته عن خارجه وأنه لا شيء في القرآن كدعوى أو منهج أو شعار إلا ومادة القرآن تقدم عليه أمثلة وتطبيقات ونماذج. وأنا أستأنس بهذه الاشارة لكي أقول ان القرآن الكريم يدعوا إلى الحوار ومن مستلزمات الحوار الاعتراف بالطرف الآخر وبحقه في الوجود وبحقه في التعبير عن رأيه وبحقه في الاختلاف مع الآخر الذي هو الحق الذي هو القرآن. القرآن الكريم يؤسس لهذا ودليلي من اللغة هو فعل قال أو مادة القول باعتبارها مؤشراً لغوياً حاسماً وصارماً على حوارية أي نص. وفي اعتقادي أن أي نص – وتخصصي أصلا في اللسانيات – وحياً أو غير وحي قرآناً أو شعراً ، أهم مؤشر على وجود روح الحوار فيه هو تصرف مادة القول . أي فعل قال ومشتقاتها.
وبقدر حضور هذه المادة وبقدر توزعها وتنوعها بقدر وجود تصريفاتها بقدر مايكون حظ هذا النص من الحوارية. فطرحت هذا السؤال على نفسي واستعنت بالمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم وعكغت على المصحف مدة فانتهيت إلى مايأتي:
مادة - ق و ل - تتكرر في القرآن 1722 مرة هذا رقم فظيع ينبغي الوقوف عنده خشوعاً ساعات إن لم أقل دهراً من الزمان وأكثر من ذلك الحضور الكمي ، الحضور الكيفي إذ تتصرف على تسعة وأربعين تصريفاً واشتقاقاً لأنه لو كانت (قال) متصرفة تصريفاً واحداً -قال أو يقول منسوبة إلى الذات الإلهية، قلت أو قلنا أو ما شاء من التصرفات الدالة على جهة المتكلم المتعالي- لما كان هناك أي معنى لاستعمال مادة القول كمؤشر على الحوار. فهذا يكون مؤشراً على التلقين وعلى التعالي وعلى الصوت الواحد وعلى الرأي الواحد والفكر الواحد. ولكن نجدها متوزعة على تسعة واربعين اشتقاقا تتوزع على كل أطراف المقام الحواري. من متكلم ومخاطب ومستمع ومحاور ومقاطع وغائب وحاضر ومذكر ومؤنث ومثنى وجمع .
نجد "قال" 529 مرة ، و "يقولون" 92 مرة ، و "قل" 332 مرة، و "قولوا" 13 مرة ، و "قيل" 49 مرة ، و "القول" 52 مرة ، و "قولهم" 12 مرة . وأنا أذكر الأرقام كمؤشر على الحوارية عالي الترداد داخل النص القرآني بشكل لافت للنظر و خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار المعطيات السبعة الآتية الملتصقة بهذا المؤشر.
أولاً: الآخر الذي يؤشر على كلامه (بقال أو قالوا أو يقولون أو قولهم) أي حضور الآخر الذي يبتدأ كلامه بهذه اللازمة هو حضور ضخم والحاصل أننا أمام نص غريب ، فقد نستنتج من نص بشري لو وجدنا فيه هذه الدرجة العليا من الحضور لمؤشر الحوار- مادة القول - أن صاحب النص شخص مفتوح شخص ذو طبيعة حوارية ، شخص يؤمن بحق الآخر ، شخص أنتج نصاً متعدد الأصوات ، شخص حضاري بالمعنى الحقيقي ، لأنه يستحضر رأيه ورأي الآخرين ويناقشه. أما وأن الأمر يتعلق بكلام الله عز وجل فالأمر يحتاج إلى وقفه.
ثانياً: الأصل في كلام الله أنه متعالي . والوضع المقامي يؤثر في القراءة الدلالية للفعل اللغوي تأثيراً قوياً جدا لأنك إذا أخذت الأمر مثلاً من أعلى إلى أسفل فهو أمر – أقيموا الصلاة – وإذا كان من أسفل إلى أعلى فهو دعاء – اللهم صل على سيدنا محمد – وصلِ في صيغته الصرفية هو فعل أمر ولكن يدخل المقام فيتغير لأنه ليس هناك أحد من العباد يأمر الله فيتحول إلى فعل دعاء. وإذا كان خطاب مثيل وند فيصبح المعنى التماساً وسؤالاً ، كأن أقول لزميلي أعطني القلم ، فأنا لست رباً له فآمره ولست عبداً له فأدعوه بل هو مثلي فيكون كلامي التماساً عند تساوي عنصري المقام.
فالنص الالهي نص متعالٍ بطبيعته لأنه من الله يخاطب البشر وطبيعة النص المتعالي المفروض فيه أن يكون ذا صوت واحد هو صوت الحق المطلق والعلم المطلق والفهم المطلق والحكمة المطلقة والمعرفة المطلقة. ثم هو أصلاً لم يأت في سياق الحوار بل هو نص جاء في سياق هداية وتبليغ وإبلاغ وتعليم وأمر وخبر. فإذا استحضرنا أن النص نص إلهي ذو طبيعة متعالية المفروض فيه أن يكون ذا صوت واحد وألا يكون متعدد الأصوات وألا ينكر عليه ذلك ولا أن يكون حوارياً... زاد ثقل الأمر.
وإذا كان كلام العقلاء منزهاً عن العبث فماذا نقول عن كلام الله، إنه الحق المطلق والصواب المطلق ورغم ذلك يكرر حقيقة 1722 مرة في حين عندما يكون المنتج للكلام في المقام ذا وزن ثقيل إذا قال الأمر مرة واحدة يأخذ هذا الأمر ثقله ووزنه وهيبته من المقام ، من طبيعة المتكلم، ﴿لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله﴾. ومعنى هذا عندما يستعمل الله تعالى التكرار فالأمر له خطورة والأمر له وزن. فالعنصر الأول الذي نريد أن نقف عنده في هذا المؤشر هو هذا الاستحضار الثقيل للرأي الآخر. الذي يستغرق تقريبا خمسين بالمائة ، أي أن هذا المؤشر الحواري نصفه من كلام الله والصالحين والأنبياء والملائكة والمؤمنين، والنصف الثاني هو للكفار والمشركين والملاحدة والزنادقة والبخلاء والمنهزمين والمغرضين .فالقرآن يقاسم الآخر بصدر رحب خمسين بالمائة .
ثالثاً: أن القرآن يستعرض الرأي الآخر رغم أنه باطل رغم أنه ضلال رغم أنه خطأ، رغم أنه لا يملك أي حظ من الصوابية. مقابل ذلك ، في دائرة الحق والباطل يتحرك البشر والمسلمون منهم في دائرة الصواب والخطأ ،لكن من أزماتنا النفسية قبل أن تكون من أزماتنا المعرفية أننا نتماهى بالذات الالهية من فرط قراءتنا للقرآن والتباس الأمر علينا . هل نقرأ القرآن متلقين ؟ أم نقرأ القرآن لنخاطب به الآخرين وبالتالي يختلط علينا الأمر أحيانا فنضع أنفسنا في حالة تماهي مع الله ونتخندق في خندق الحق ونجعل الآخر في جانب الباطل ، رغم أن الله عز وجل عندما يتكلم يستحضر الآخر وبكل هذا الثقل . فتجد في القرآن كلام الملحدين الذين ينكرون وجود الله أصلاً ﴿وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيـا وما يهلكنا إلا الدهر﴾، وكلام اليهود ﴿وقالت اليهود يـد الله مغلولة﴾، وكلام النصارى ﴿إن الله ثالث ثلاثة﴾، وكلام المنافقين المغرضين الذين يفلسفون كل رذائلهم وأقل رذائلهم رذيلة البخل، يفلسفون بشكل خطير يمكن أن تنطلي شبهتها على الضعاف ﴿وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه﴾ شبهة خطيرة يمكن أن تعلق يوردها القرآن دون أن يستحضر أنها يجب أن تباد وتمحى وتقصى لأنها قد تفسد على المسلمين خلق الكرم والاستجابة لأمر الله بالإنفاق وإعطاء الزكاة بناء على حيثية تحايلية تأويليه فاسدة لأن الله هو الذي يغني ويفقر ويرفع ويضع ويوسر ويعسر. كما أننا نجد كل الطوائف الفاسدة والآراء الأخرى موجودة داخل النص القرآني وبهذا الحضور.
رابعاً: يستحضر القرآن الكريم (الآخر) رغم فساده ، فالآخر ليس ضعيفاً و ليس مهمّشاً. ليس كما هي عادة وسائل الاعلام في إدارة الحوار حيث يحكم على طرف سلفاً أن يكون ضعيفا للتظاهر بالانفتاح والإنصاف والحوار لتخدير وغسل دماغ المشاهدين بآليات وتمثيلية مزيفة لاظهار أن هناك تعدد في الأصوات . فليس في القرآن هذا الاسلوب المتحايل ، بل العكس هناك استحضار للآخر بقوة وبأخلاقيات عالية جداً ، يستحضره دون أن يبتره؛ فهناك طريقة لإقصاء الآخر وهي طريقة بليدة ممجوجة هو أن تكتب وتقصي الرأي الآخر وتنكر أنه موجود. وهناك أُسلوب أمكر وأذكى في الاقصاء هو أن تستحضر الآخر وتبتر كلامه وتشوهه وتقطعه . فالقرآن الكريم يستحضر الآخر استحضاراً كاملاً يعطيه الفرصة الكاملة لكي يتم جملة مفيدة لكي يتم نصاً كاملاً ليتم فكرةً واضحةً بكل قوتها .
خامساً: القرآن يسبغ جمالية أدائه البياني وبراعة أسلوبه على الآخر فعندما نقرأ في القرآن وينتقل الكلام من كلام الله باسلوبه العالي الرفيع لا يحكي عن الآخر بلغة ركيكة وأداء رديء و بيان ضعيف، بل بالعكس إن القرآن الكريم يخلع أداء الجمال البياني على الجميع فتجد تعبير القرآن الكريم عن الآخر أجمل من تعبيره هو، الدهريون يقولون "إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع" و القرآن يحكي عنهم: ﴿وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر﴾، فالتعبير القرآني أبلغ وأجمل لأنه يمنح الآخر فرصة الحضور في التاريخ ويمنحه فرصة الحضور في الجمال ، الحضور المعنوي.
سادساً: القرآن يخلد الرأي الآخر لأن القرآن كلام الله، والله وعد بخلوده ولم يستحفظنا إياه كما استحفظ أهل الكتاب . وقامت على خدمة النص القرآني جيوش مجيشة من العلماء، من أشرف شيء فيه وهو معانيه إلى الشيء المادي فيه وهو الخط . هذا الجيش من العلماء الذي ينقسم على أكثر من ثلاثين تخصص من أجل حماية هذا النص وخدمته يحمي داخل هذا النص الرأي الآخر ويخلده.
سابعاً: وأخيرا لا يرد عليه ، وقد تتبعت السياقات القرآنية ولم أقم باحصاء دقيق ففي أغلب الأحيان لا يكلف نفسه حتى أن يرد على الرأي الآخر فيعطيه الفرصة الكاملة للاستمرار فلا يكون وصياً على عقل المسلم . فلما حصن المسلم بالرؤية الكاملة والعقيدة الصافية والمنهج والادراك السليم يتركه هو كي يرد من عنده. الرأي الآخر -بما هو ضلال وكفر وباطل- يستحضره كلام الله المتعالي وبقوة ولا يبتره، يجمّله بلغة القرآن، يخلده ولا يرد عليه . أي حوارية أعلى من هذه الحوارية؟ أي خلق في استحضار الآخر وإعطائه فرصة الوجود ومناقشته واعطائه فرصة في أن يخلد برأيه بعد أن تفنه ذوات القائمين عليه؟
إن كان من درس نقف عليه بعد هذا الاحصاء لمؤشر الحوار فهو أن القرآن الكريم يريد أن يعطينا درساً في الإنفتاح على الرأي الآخر، درساً في قبول حق الرأي الآخر في الوجود وليس صوابيته. فالصوابية مجال تدافع فكري ومعرفي قائم على النزاهة أي على طلب الحق. وأول شروط النزاهة أن تترك الآخر لكي يقع تدافع موضوعي بين رأيك ورأيه. وإن كان من درس نأخذه من هذا المؤشر الأول هو أن الإسلام هو عين الإيمان بحرية الفكر، وحرية الرأي الآخر ، والايمان بافساح المجال للرأي الآخر. واحترام الرأي الآخر .
فالاسلام يؤمن بقوته الذاتية ويؤمن بأن الحق بذاته يزهق الباطل ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون﴾. فالويل اعتبرها هنا كلمة معرفية (الويل) أي بطلان الاستدلال وفساده، وليس يقصد به الوعيد لأن الوعيد في السياق سيصبح قمعاً للحوار وقمعاً للرأي الآخر، وهذا ما لا ينسجم مع روح السياق ولا مع روح النص القرآني بأكمله. إن للإسلام قوة ذاتية هي قوة الذاتية الكامنة في الحق كما أن الضعف الذاتي كامن في الباطل ، ولهذا يستمد الباطل قوته من أشياء خارجة عنه ويستمد الحق قوته من داخله ومن ذاته فقط . فالإسلام قوي بما يأتي به من أدلة وما يطرحه من أفكار وقوي بتهافت الرأي الآخر .
بل أكثر من ذلك فالإسلام يطرح قوته في سياق التحدي المفتوح. القرآن يفتح التحدي في سياق الزمن إلى يوم القيامة ويفتحه على حضارات وعلوم ومعارف واستدلالات قد يتلبسها الباطل لا حدود لها كماً وكيفاً وزماناً ومكاناً إلى يوم القيامة ، أي أنه تحدي للتخليد. فالرأي الآخر لعله باطل في زمن الصحابة لقوة ايمانهم وانطلاقهم من الحق وردهم للباطل بطريقة ايمانية . فلعل قوما آخرين سيجمعون حضارات وعلوم أقوى يستطيعون الاستدلال بها . فالقرآن الكريم يقر بهذا الإحتمال ويفتح هذا الحوار إلى ما لا نهاية مع كل من يريد أن يكرر المواجهة من أطراف أخرى وزوايا أخرى لم تكن منظورة ولا موجودة. أكثر من ذلك إن ذلك التحدي يصل إلى مقام الإيمان نفسه إن هذا الكلام يتعبد به فتصير من عبادتنا أن نفسح المجال للرأي الآخر وأن نعطيه فرصة لأن يبقى حاضراً حضوراً تاريخياً ومعرفياً في الزمان والمكان إلى قيام الساعة.
وأريد أن أنتقل من النسق النظري في القرآن الكريم إلى التطبيق التاريخي لأن البعد التطبيقي يعطي للجانب النظري معناه ويرسخه أكثر في النفس.
الرسول صلى الله عليه وسلم بصفته أول وأعظم تلميذ في مدرسة القرآن. والأستاذ الذي تخرج بعد رحلة التلمذة من القرآن فأعطى دروساً لمن بعده من جيل الصحابة. و أنا أسجل لقطة واحدة أسميها مدرسة (أوَ قد فرغت يا ابن الوليد). فالنبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليه المشركون المغيرة ابن الوليد لكي يذوده عن اختياره بتبليغ الرسالة ويصرفه إلى قناعة أخرى وحلول وسطية علّها تحل الإشكال داخل البيت المكي دون تفجير من الداخل. جاء الرجل يتكلم بلغة مؤدبة عالية ويعرض بطريقة سلمية عروض سخية، يا محمد إني وافد قريش إليك . إن كنت مريضاً طلبنا لك دواء،ً وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا وإن كنت تريد مالاً جمعنا لك من حر مالنا حتى ترضى، وإن كنت تريد النساء زوجناك حسان بناتنا. وهذا الكلام يبدو في ظاهره مؤدباً ويبدو عرضاً لخيارات واحتمالات فيها شيء من النسبية والايمان بوجود احتمالات أمام هذه الحالة ، ولكنه في العمق هو عين الإقصاء ليس فيه فتح لمجال الحوار الحقيقي وليس فيه أدب وهو في العمق عين استهزاء. كما لو أنه يقول للرسول بالعبارة الصريحة: إما أنك وصولي أو انتهازي أو مجنون أو شهواني، يضعه أمام أربعة احتمالات لا أخلاقية ولم يذكر له احتمالاً خامساً ، وإن كنت نبياً فأعطنا دليلك أو نتحاور أو .. فالتنويع الذي طرحه كان تنويعاً مغلوطاً أو تنويعاً شكلياً مثل تنويع الغربيين اليوم وحوارهم معنا، هو تنويع على إيقاع واحد واحتمال واحد وهو أنك باطل. وهو إقصاء في الحقيقة لأنه اتهام بأحط ما يمكن أن يركب الانسان من أجله الأخطار، وفيه إقصاء حقيقي لمصداقية الرسول صلى الله عليه وسلم فرأسماله الحقيقي هو صدقه مع نفسه وهو استفزاز حقيقي ، ولو أن واحداً منا تعرض له فقد لا يملك إلا أن يكوّم يده ثم تطير أضراس المخاطب . فليست العظمة في أن النبي صلى الله عليه وسلم تحمل هذا الكلام وليست العظمة فقط في أنه تركه ينتهي ، فأقصى ما يمكن للواحد منا إن كان متحليا بروح حضارية أن يترك الآخر حتى يكمل فنحن نقاطع بعضنا بعضا . ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وصل إلى ذروة ما يحلم به المحاور الحضاري وهو أن يكمل الآخر رأيه دون أن يقاطعه ، دون أن يستفزه ، ولكن يزيد شيئا ملائكياً غير موجود عند البشر بل هو موجود عند الانبياء فيقول له (أو قد فرغت يا ابن الوليد) يعني هل عندك شيئا آخر تضيفه؟ هل تريد فرصة أخرى في الحوار؟ قال نعم. قال: فاسمع، ثم تلا عليه سورة من القرآن .
فمدرسة (أو قد فرغت يا ابن الوليد) مدرسة تبين لنا أن الفهم السطحي الذي عندنا من حمل الحق والحماس له غير صحيح . و نحن من فرط إيماننا بالحق نتعصب له وننفعل ونقاطع ونلقن ونرفع الصوت ونتعالى ونتهجم على الآخر. وإن أقررنا أنها عيوب بررناها أنها من طبيعة الإنسان المؤمن بالحق ، فإن وجدنا شخصاً ليناً هادئاً ساكناً مفسحاً المجال للآخر، اعتقدناه ضعفا في يقينه أو ضعفاً في صحة موقفه. وموقف النبي صلى الله عليه وسلم يبين شيئاً عظيماً جداً أن الحماس الذي يخرج عن آداب الحوار الفكرية والأخلاقية ليس قريناً لليقين الكامل في الحق ، فالذي قال ( لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أدع هذا الأمر أو أهلك دونه) هو نفسه ترك الرجل حتى أكمل، وما انفعل ثم أعطاه فرصة جديدة ، ثم أجابه بهدوء.
وفي إضاءة لتلاميذ التلميذ الأول والأستاذ الأول لن آخذ من جيل الصحابة ولا جيل التابعين بل من جيل بدء تأسيس المعرفة. من أوائل من كتب في السيرة النبوية ابن هشام بعد ابن اسحاق وابن شهاب . وقد قامت الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) رحمها الله باحصائية في الشعر الذي أورده ابن هشام في المجلدات الأربعة وكان سياقها غير سياقي ونيتها غير نيتي ، كانت تتحدث عن الأدب وهي أديبة وكانت ترد على من ادعى أن الاسلام أضعف الشعر فأرادت أن تبين أن هذا لم يحصل، فجاءت بالوثيقة التي سجلت الحركة الشعرية السجالية التدافعية بين المشركين والمسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي السيرة. فقامت باحصاء وهي على غير بال بالنتيجة التي سأستنتجها منها فوجدت أن في سيرة ابن هشام ألف بيت من الشعر خمسمائة بالتمام والكمال شعر المسلمين والصحابة المنافحين عن النبوة والاسلام والمادحين للمسلمين والاسلام والمنشدين لأشعار النصر في معارك الإسلام، وخمسمائة بالتمام والكمال للمشركين الذين شتموا عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين سبوا الدين والمسلمين وهيجوا عليهم الأحقاد. قد لايكون ابن هشام فعل هذا بوعي ، ولعل سر العظمة أن التخلق عند المسلمين بهذا الخلق صار تلقائياً عفوياً مندمجاً في كيانهم ، ويمارسونه بطريقة لا شعورية . أكثر من هذا ، ربما لا يحمل الرقم خمسمائة إلى خمسمائة دلالة كبيرة لأنه قد يكون فرضاً أن يكون المسلمون أنتجوا خمسمائة بيت والكفار أنتجوا ثلاثة آلاف فقط فقام هو بإقصاء ألفين وخمسمائة ليبدوا وكأن الأمر متوازن . فهذا غير صحيح فحسان بن ثابت وحده ربما أنتج أكثر مما أنتجه شعراء قريش بأكملهم. وفي كتب تاريخ الأدب نجد أن شعر قريش كان قليلاً وضعيفاً لأنهم أهل حضر أما أهل المدينة فهم أقرب إلى مدرسة الشعر الجنوبي التي أسسها امرئ القيس قبل ذلك بقرنين واعتبارات أخرى لا ندخل فيها الآن .