رى أن تحقيق الديمقراطية السياسية كفيل بتجسيد الغاية من وجود الدولة ؟ مقالة جدلية
طرح المشكلة:وصف الفلاسفة الانسان منذ القديم بأنه كائن مدني بطبعه ؛ فحياته لا تقوم و لا تستمر الا في ظل وجود سلطة تحكمه حتى أنّ
أرسطو اعتبر الدولة من الأمور الطبيعية ، و الواقع يجعلنا نميز بين نوعين
من أنظمة الحكم نظام حكم فردي ترتكز فيه السلطة في يد شخص واحد، ونظام حكم
جماعي أو ما يعرف بالديمقراطي الذي يعبر عن إرادة الشعب و يهني حكم الشعب
نفسه بنفسه. لكن الفلاسفة و رجال السياسة اختلفوا حول أفضل طريقة لممارسة
الديمقراطية فرأى البعض أن ّ الديمقراطية إنما وُجدت لأجل تحقيق غايات أسمى ؛ هي بالأساس حماية الحريات العامة للأفراد وكذا ضمان حقوقهم، و رأى البعض الاخر أنّ
أفضل طريقة لتحقيق الديمقراطية هي تقديس المساواة الاجتماعية. من هنا
يمكننا التساؤل هل الديمقراطية السياسية هي أفضل نظام لحفظ الدولة و تحقيق
الاستقرار السياسي ؟، أم أنه لا يمكن تصورّ الديمقراطية ﺇلا في ظل المساواة الاجتماعية ؟
محاولة حلالمشكلة :
عرض منطق الأطروحة : يرى أنصار المذهب الليبرالي ودعاة الحرية الفردية ، أنّ تحقيق نظام سياسي راشد يجسد الغاية من وجود الدولة ، مرهون بإقرار الديمقراطية السياسية الليبرالية كنظام حكم أو كما تسمى الديمقراطية الدستورية
، والذي هو – دون شك – النظام الوحيد الذي يصون حريات الأفراد ويضمن
حقوقهم ويحقق العدالة بينهم، و أهم هؤلاء فلاسفة عصر التنوير الذين تميزوا
بالتقدير العالي للحرية ومنهم الفيلسوف الانجليزي جون لوك John Locke (1704-1632) و عالم الاجتماع الفرنسي مونتسكيو Montesquieu ( 1755-1689) و الفيلسوف الألماني هيغل Hegel (1770-11831) ،و مواطنه عالم الاجتماع ماكس فيبر Max Weber ( 1864-1920).
الحجج و البراهين :
وما يثبت ذلك ، الديمقراطية السياسية أو الليبرالية تنادي بالحرية في جميع
المجالات ؛ أولها الحرية الاقتصادية التي تعني حرية الفرد في التملك
والإنتاج والتسويق والاستثمار ... دون تدخل الدولة ، لأن وظيفة الدولة
سياسية تتمثل بالخصوص في ضمان وحماية الحريات والحقوق الفردية ، وتدخلها
معناه تعديها على تلك الحريات والحقوق و هذا يشمل الملكية و المنافسة و
حرية التجارة و المنفعة الفردية، وفي هذا السياق تظهر أفكار سبينوزا الرافضة لفكرة التخويف التي تعتمد عليها الأنظمة الاستبدادية و هو يرى أنّ السلطة الحقيقية هي التي تحمي حرية الفكر و تضمن المشاركة السياسية للأفراد حيث يقول سبينوزا: « لم توجد الدولة لتحكم الانسان بالخوف و إنما وجدت لتحرر الفرد من الخوف ».
إنّ كل فرد في هذه الديمقراطية حر في أن يملك ما يشاء من ثروة ، و حر في
تصرفاته و أعماله الخاصة و هو في النهاية مسؤول عن نتائجها يقول هنري ميشال Henri michel : « الغاية الأولى للديمقراطية هي الحرية »،
ومن الناحية التاريخية تعتبر الثورة الفرنسية 1789 في نظر رجال الفكر و
التاريخ أكثر الثورات التي حملت لواء الديمقراطية السياسية و خاصة دفاعها
عن المساواة السياسية كما ذهب توماس جفرسون Thomas Jefferson (1743-1826) رئيس الو.م.أ في القرن 19في صياغته للدستور الأمريكي الى مطالبة الحكومات الديمقراطية بحماية حق الأفراد في الحياة و التفكير.
. وثانيا الحرية الفكرية
والشخصية ، التي تعني إقرار حق الفرد في التعبير وضمان سرية الاتصالات
والمراسلات وضمان حرية العقيدة والتدين . وأخيرا الحرية السياسيةكحق
الأفراد في إنشاء الأحزاب السياسية بتوجهاتها المختلفة أو الانخراط فيها
بشكل حر ، و التداول على السلطة ، و المشاركة في صنع القرار، كما أن للفرد
الحق في المعارضة ، وكذا المشاركة في اتخاذ القرارات عن طريق النواب الذين
ينتخبهم لتمثيله والتعبير عن إرادته ، و حرية الرأي و التعبير و النشر و
الإعلام والحصول على المعلومات من مصادر متنوعة ، و حرية الأفراد في
العبادة والدعوة ،حرية التنقل؛ حقهم في إنشاء الجمعيات الثقافية و النقابات
التي تدافع عن مصالحهم المادية و المعنوية في العمل ، حقهم في الملكية و
المنافسة و حرية التجارة و المنفعة الفردية . إنّ كل فرد في هذه
الديمقراطية حر في أن يملك ما يشاء من ثروة ، و حر في تصرفاته و أعماله
الخاصة و هو في النهاية مسؤول عن نتائجها ، هكذا يجد كل واحد فرصة لتجسيد
أفكاره و إبراز مواهبه و تحقيق أهدافه و يساهم في بناء الدولة بمبادرته
الخاصــــــــة، يقول هيغل : « الدولة الحقيقية هي التي تصل فيها الحرية الى أعلى مراتبها »
.كما أن الديمقراطية السياسية تقوم على فصل السلطات من تشريعية وتنفيذية وقضائية .. مما يعني أنّ القضاء مستقل ، ومن شأن ذلك ان يحقق العدل بين الأفراد الذين يضعهم القانون على قدم المساواة .و يعتبر مونتسكيو أول من دعا الى فصل السلطات عن بعضها البعض حيث يقول : « في الدولة الحرة يحكم كل ﺇنسان حر نفسه بنفسه » .
أما العدالة الاجتماعية –
التي تعد من أهم الغايات التي جاءت من أجلها الدولة – فإنّ الديمقراطية
السياسية تراعي في تحقيقها احترام الفروق الفردية ، باعتبار أنّ
الأفراد متفاوتون في القدرات والمواهب وفي إرادة العمل وقيمة الجهد
المبذول .. وبالتالي ينبغي الاعتراف بهذا التفاوت وتشجيعه، لذلك يقول أحد
المفكرين: « ﺇنّ فكرة الحرية هي التي تحتل الصدارة في الإيديولوجيات الديمقراطية و ليست المساواة » .
النقد:
لكن نظام حكم بهذا الشكل ناقص ؛ فالديمقراطية السياسية تهتم بالجانب
السياسي و تهمل الجانب الاجتماعي ، حيث تنادي بالحرية فقط دون الاهتمام
بالمساواة بين الأفراد اجتماعيا واقتصاديا ، والحرية السياسية والفكرية لا
تعني شيئا لمواطن لا يكاد يجد قوت يومه .
ومن جهة ثانية ،
أن غياب المساواة الاجتماعية والاقتصادية أدى الى غياب المساواة السياسية ،
فالأحزاب والجمعيات بحاجة الى وسائل إعلام ( صحف ، محطات إذاعية وتلفزية
.. ) لتعبر عن إرادتها ، وبحاجة الى دعاية لتروج لأفكارها .. وهذا كله
بحاجة الى رؤوس أموال التي لا تتوفر الا عند الرأسماليين الكبار ، والنتيجة
أصبحت الطبقة المسيطرة اقتصاديا مسيطرة سياسيا ، أي سيطرة الرأسماليين على
دواليب الحك ﺇذ معروف أنّ الأثرياء و أصحاب الثروات يسيطرون على الحياة
السياسية و يوجهونها كيفما شاءوا؛ فقد استبشر الجميع خيرا عندما تم اختيار
الرئيس الحالي للو.م.أ باراك أوباما ولد سنة 1961 Barack Obama لكن سياسته لم تختلف عن سابقه جورج بوش الابن و هذا بسبب سيطرة الشركات المصنعة للأسلحة و التي تفرض على كل رئيس أمريكي أن يدخل في حرب م .
عرض نقيض الأطروحة :
وبخلاف ما سبق ، يرى أنصار المذهب الاشتراكي ودعاة المساواة ، أن النظام
السياسي الذي من شأنه أن يقضي على كل مظاهر الظلم والغبن والاستغلال هو
إقرار الديمقراطية الاجتماعية ، التي هي الديمقراطية الحقيقية التي تحقق
المساواة والعدل ، وتجسد – من ثـمّ – الغاية التي وجدت الدولة من أجلها .،
وأهم هؤلاء الفيلسوف الألماني كارل ماركس Karl Marx (1883-1818) و زميله فريدريك انجلز Friedrich Engels ( 1895-1820)
و أول رئيس للاتحاد السوفياتي القائد الثوري فلاديمير لينين Vladimir Lenin(1924-1870)
الحجج و البراهين : وما يؤكد ذلك ، أنّ
أساس الديمقراطية الاشتراكية هو المساواة الاجتماعية ، عن طريق القضاء على
الملكية الفردية المستغِلة التي أدت الى بروز الطبقية الفاحشة ، وقيام
ملكية جماعية يتساوى فيها الجميع بتساويهم في ملكية وسائل الإنتاج .لذلك
قال انجلز: « الاشتراكية ظهرت نتيجة صرخة الألم و معاناة الانسان »كما
تنادي هذه الديمقراطية بضرورة تدخل الدولة في إقرار مبدأ تكافؤ الفرص بين
كل الأفراد ومساواتهم في الشروط المادية والاجتماعية ، مما يؤدي الى القضاء
على كل مظاهر الظلم واستغلال الانسان لأخيه الانسان ، وذلك أن الديمقراطية
السياسية لم تنجح في خلق عدالة اجتماعية و بدل الدفاع عن المساواة بين
الأفراد جسدت الطبقية في أوضح صورها بين من يملك و الذي لا يملك وبذلك
تتحقق المساواة الفعلية والعدالة الحقيقية بين كل فئات الشعب، ولهذا قال
الكاتب الفرنسي أناتول فرانس Anatole France(1844-1924) : « الذين ينتجون الأشياء الضرورية للحياة يفتقدونها ،و هي تكثر عند الذين لا ينتجونها » ، و من هذا المنطلق رفع كارل ماركس شعاره: « يا عمال العالم اتحدوا » فالديمقراطية
الاجتماعية ترمي الى الربط بين العمل السياسي و العدالة الاجتماعية ومن
أجل تحقيق هذا الهدف اعتمدت على مجموعة من المبادئ أهمها الاعتماد على
سياسة الحزب الواحد و هذا الحزب يلعب دور الموجه و المراقب و مهمته
الأساسية خلق الوحدة الوطنية من خلال تركيز جميع الجهود في مسار واحد بدل
تشتيت القوى كما هو حاصل في الديمقراطية السياسية؛ فجوهر العمل السياسي هو
خدمة الجماهير و ﺇزالة الفوارق الطبقية حيث يقول كارل ماركس : « ليس الوعي العام للناس هو ما يحدد وجودهم ولكن الوجود الاجتماعي و الاشتراكي هو ما يحدد وعيهم » ،كما يقول لينين : « سيقوم الجميع في ظل الاشتراكية بالحكم كل في دوره بالتالي سيعتادون على ألا يحكم أحد »، ويقول أيضا: « يجب أن يكون كل طباخ قادرا على ﺇدارة البلاد» و الذي صرح أيضا في مجلس العمال بعد قيادته لثورة كبيرة ضد الحكم الملكي في روسيا : « فلتحيا الثورة الاشتراكية العالمية» و
اقترح وقف قتال في كل الجبهات و نقل الأراضي من الملاك و العرش الملكي و
الأديرة الى الجمعيات الزراعية بدون أية تعويضات، و بعد الحرب العالمية
الثانية أصبحت الاشتراكية ذات تأثير متزايد فيما يسمى بالعالم الثالث فأممت
دول بإفريقيا و آسيا و أمريكا اللاتينية الصناعات التي امتلكها ملاك أجانب
أما الاتحاد السوفياتي فأصبح قوة عظمى هذا الانجاز أقنع العديد من
القوميين في دول العالم الثالث بأن يسلكوا سبيل الاشتراكية خاصة في الصين و
مصر و الهند حيث حاولت استيراد التجربة السوفياتية و قد امتد تأثير
الديقراطية الاشتراكية حتى في الدول الليبرالية نفسها حيث يعتبر حزب العمال
الأسترالي و هو أول حزب عمال ديمقراطي اشتراكي في العالم تم تأسيسه عام
1891 و في عام 1904 انتخب الأستراليون أول رئيس وزراء عضو في هذا الحزب و
هو كريس واتسون كما سيطرت الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية قي سياسات
ما بعد الحرب العالمية في دول ليبرالية كثيرة مثل فرنسا و ايطاليا و
تشيكوسلوفاكيا و البلجيك و النرويج، أما في السويد فقد تقلد الحزب
الديمقراطي الاشتراكي السلطة من 1936الى 1976؛ ومن 1976 الى 1982 ؛ و من
1994 الى2006 . وحتى الانتخابات الرئاسية الفرنسية الحالية يرى معظم
المتتبعين أن ممثل الحزب الاشتراكي فرانسوا هولا ند )ولد François Hollande (1954 هو الأوفر حظا للفوز مقارنة بخصمه الليبرالي نيكولا ساركوزي Nicolas Sarkozy(ولد سنة 1955) .
النقد : إنّالمناداة
بالمساواة نظريا لا يعني بالضرورة تحقيقها فعليا ، ومن جهة أخرى فاهتمام
الديمقراطية الاشتراكية بالجانب الاجتماعي وإهمالها الجانب السياسي أدى الى
خلق أنظمة سياسية شمولية ديكتاتورية مقيدة للحريات، محولة بذلك أفراد
المجتمع الى قطيع. فقد أهملت الجانب السياسي و الاقتصادي و ركزت على الجانب
الاجتماعي فقط ﺇذ ما يعاب عليها الفصل بين النظرية و التطبيق فبدل تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية تحول العمل السياسي ﺇلى
خدمة أفراد الحزب الواحد الحاكم ، فقضت على المبادرات الفردية و ضيقت
دائرة الحرية حتى أصبحت شبيهة بالحكم الاستبدادي و هذا ما يتعارض مع
الطبيعة الإنسانية القائمة على حبّ الحرية ، و أنّ سقوط الأنظمة الاشتراكية
الواحدة بعد الأخرى خاصة في أوروبا الشرقية أحسن دليل على ذلك..
التركيب : في الحقيقة ﺇن
المجتمع الذي يتوخى العدل هو المجتمع الذي يتبنى الديمقراطية نظاما لحياته
، تلك الديمقراطية التي ينبغي لها أن تهتم بالجانب السياسي فتضمن حريات
الأفراد وتحمي حقوقهم ، كما ينبغي لها أيضا أن تهتم بالجانب الاجتماعي
فتعمل على إقامة مساواة فعلية حقيقية بينهم ، فتتحقق بذلك العدالة ، وتتجسد
وظيفة الدولة الأصيلة
الرأي الشخصي:
لكن من وجهة نظري فان الديمقراطية يجب أن تتضمن الحرية والمساواة معا لان
الحرية التي تطالب بها الديمقراطية هي حرية الجميع دون استثناء فالمسألة
هنا يجب النظر إليها من زاوية الكيف و ليس الكم و هذا ما أكد عليه مبدأ
الشورى في الإسلام في قوله تعالى: « و شاورهم في الأمر » فالشورى تشترط الحوار و الحوار يدل على الحرية وقوله كذلك جل ثناؤه:« و أمرهم شورى بينهم ».
حلالمشكلة :
وهكذا يتضح ، أن الديمقراطية السياسية – كنظام حكم – لا تحقق الغاية التي
وجدت من أجلها الدولة ، لإهمالها جانبا مهما هو المساواة الاجتماعية التي
هي روح العدالة الحقيقية . وعليه فالنظام السياسي الراشد هو الذي يضمن حرية
الأفراد سياسيا ويساوي بينهم اجتماعيا و بتعبير اخر الديمقراطية الحقيقية
هي التي تتأسس على المساواة والحرية معا يقول ألكسيس توكفيل : «ﺇن الديمقراطية ليست نظاما سياسيا فحسب بل هي أسلوب حياة » .