يحيى بن موسى الزهراني
الحمد لله رب العالمين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له ولي الصالحين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله نبي
العدل والهدى ، عليه من ربه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات إلى يوم الدين . .
. أما بعد :
طاعة الوالدين :
فلا أعظم من طاعة الوالدين بعد طاعة الله تعالى ، وطاعة نبيه صلى الله عليه
وسلم ، ولهذا قرن الله طاعتهما بطاعته سبحانه بعد التحذير من الشرك ، فقال
تعالى : " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً " ، "
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً " . والأدلة في ذلك
مشهورة معلومة .
البر والعقوق :
وحذر المولى جل وعلا من عاقبة العقوق تحذيراً شديداً ، جاء ذلك التحذير
مستفيضاً في كتاب الله تعالى ، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وليس
حديثنا عن البر والعقوق من قبل الأبناء والبنات ، بل الحديث عن العطف
والحنان من قبل الآباء والأمهات ، فمن أدلة تحريم العقوق من كتاب الله
تعالى : " ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما " ، وقوله تعالى : " فهل عسيتم إن
توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله
فأصمهم وأعمى أبصارهم " ، وأخرج أبو داود والترمذي وصححه الحاكم عن أبي
بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من ذنبٍ أجدر أن
يُعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي
وقطيعة الرحم " يقول ابن عباس رضي الله عنهما : ثلاث آيات مقرونات بثلاث :
لا تقبل واحدة بغير قرينتها " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول " فمن أطاع الله
ولم يطع الرسول لم يُقبل منه . " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " فمن صلىّ
ولم يزكّ لم يُقبل منه . " أن اشكر لي ولوالديك " فمن شكر الله ولم يشكر
لوالديه لم يُقبل منه . فرِضى الله في رِضى الوالدين ، وسخط الله في سخطهما
.
نتائج عدم العدل بين الأولاد :
وبما أن العقوق محرم ، ومن أكبر الكبائر ، فلذا كان كل ما يؤدي إلى العقوق
حرام ، ومن أعظم ذلك ، عدم العدل بين الأولاد في الهدية والعطية والهبة
والصدقة ، فالتمييز بين الأولاد والتفريق بينهم في أمور الحياة سبب للعقوق ،
وسبب لكراهية بعضهم لبعض ، ودافع للعداوة بين الأخوة ، وعامل مهم من عوامل
الشعور بالنقص ، وظاهرة التفريق بين الأولاد من أخطر الظواهر النفسية في
تعقيد الولد وانحرافه ، وتحوله إلى حياة الرذيلة والشقاء والإجرام .
المفاضلة بين الأولاد خطيرة ، ومن أعظم العوامل التي تسبب الانحراف عن منهج
الشريعة الصحيحة ، والصراط المستقيم ، بل سبب مباشر للعقوق ، وقد يسبب
القتل والعياذ بالله ، والواقع خير شاهد على ذلك .
والمفاضلة تختلف ، فمنها المفاضلة في العطاء ، والمفاضلة في المعاملة ،
والمفاضلة في المحبة ، أو غير ذلك من المفاضلة والتمييز الذي ذمه الشرع
وحرمه ومنعه ، لما يسببه من أسباب وخيمة ، وعواقب جسيمة ، وهناك من الآباء
والأمهات من لا يعدل بين أبنائه ظلماً وجوراً ، وإجحافاً وتعسفاً . فيقع في
الحرام وقد لا يدري .
وكم هي المآسي والأحزان التي تعج بها بعض البيوت نتيجة للظلم والتمييز
العنصري ، والتفريق بين الأبناء ، وعدم العدل بينهم ، مما تسبب في وجود
الكراهية والبغضاء بين الأخوة في البيت الواحد ، والسبب هم الآباء ، وعدم
اتباع الكتاب والسنة في مثل تلك الأمور والمنحدرات الخطيرة التي تؤدي
بالأسرة إلى الهاوية والعياذ بالله .
فظاهرة عدم العدل بين الأولاد لها أسوأ النتائج في الانحرافات السلوكية
والنفسية ، لأنها تولد الحسد والكراهية ، وتسبب الخوف والحياء ، والانطواء
والبكاء ، وتورث حب الاعتداء على الآخرين لتعويض النقص الحاصل بسبب التفريق
بين الأولاد ، وقد يؤدي التفريق بين الأولاد إلى المخاوف الليلية ،
والإصابات العصبية ، وغير ذلك من الأمراض الغير عضوية ، مما يضطر الكثير من
الأولاد إلى مراجعة مستشفيات الصحة النفسية ، وهناك تشتد الآلام أكثر مما
كانت عليه من ذي قبل ، فمثل هذه المصحات لا فائدة ترجى منها ، بقدر ما هي
زيادة في المرض كما هو معلوم لدى الكثير ممن يراجعها .
وهنا أمر مهم يدخل ضمن المفاضلة في المحبة ، وهو تفضيل محبة بعض الأحفاد
على بعض ، فقد يكون للأب أو الأم ، أبناء وبنات ، فيتزوجون وينجبون ذرية ،
فلا يكون هناك عدل من قبل الأجداد في العدل في محبة أبناء الأبناء ، وقد
يكون ذلك واضحاً جلياً ، فيكون هناك انحياز لبعض الأحفاد على حساب بعض ،
وهنا تقع الكارثة والمصيبة الكبرى ، من البغض والكره والغيظ للأجداد من
الأبناء والأحفاد ، نظراً لعدم التسوية في الملاطفة والمحبة ، ونظراً لعدم
العدل بين الأبناء ، وأبناء الأبناء ، فاتقوا الله أيها الآباء والأجداد في
العدل بين أبنائكم وأحفادكم ، فلا أعز من الولد إلا ولد الولد ، وعاملوهم
كما تحبون أن يعاملوكم به .
أسباب التفضيل بين الأبناء :
البعض من الآباء قد يفضل بعض الأبناء على بعضهم لأسباب قد يراها موافقة له على ذلك ، والصحيح عكس ما كان يعتقد ، فمن تلك الأسباب :
1- أن يكون الطفل من الجنس الغير مرغوب فيه جهلاً لكونه أنثى :
ما ذنب الطفل إن ولد في حياته أنثى ، لقد حث النبي الكريم صلى الله عليه
وسلم على العناية بالبنات ورعايتهن أشد رعاية والاهتمام بهن وعدم عضلهن ،
وأنهن الحجاب من النار إذا أحسنت تربيتهن ، فقال صلى الله عليه وسلم : [ من
عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين ] وضم أصابعه (
رواه مسلم ) . ـ أي من رعى بنتين وقام عليهما بالمؤونة والتربية جاء
مصاحباً لنبي الله صلى الله عليه وسلم ـ ، وقال صلى الله عليه وسلم : [ من
ابتلي ـ أي اختبر ـ من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار ]
( متفق عليه ) ، فهل أحسنت إلى ابنتك أنت ؟ أم أهنتها وأذقتها المرارة ؟
وجرعتها كأس الحرمان من الزواج من أجل تلك الوظيفة والعقبة الدنيئة ، قال
صلى الله عليه وسلم : [ اللهم إني أحرج حق الضعيفين ، اليتيم والمرأة ] (
رواه النسائي وغيره بإسناد حسن ) ، ومعنى ذلك : أن النبي صلى الله عليه
وسلم يلحق الإثم بمن ضيع حقهما ، وحذر من عاقبة ذلك تحذيراً بليغاً . وقال
صلى الله عليه وسلم : [ إن شر الرعاء الحطمة ، فإياك أن تكون منهم ] ( متفق
عليه ) ومعنى الحطمة : العنيف برعاية الإبل ، فقد ضربه النبي صلى الله
عليه وسلم مثلاً لوالي السوء ، الذي يظلم من هو تحت ولا يته من أهل وغيرهم ،
وما فيه من قسوة وجلافة ، وعنف وعدم رحمة ، وبعده عن الرفق والشفقة . وقال
صلى الله عليه وسلم : { استوصوا بالنساء خيرا } ( متفق عليه ) .
2- أن يكون الابن قليل الحظ من الجمال أو الذكاء ، وما جريمة الطفل إذا كان
قليل الجمال ، أو دميم الخلقة ، أو كان قليل الذكاء ، أو لم ذا ذكاء فارط ،
حتى يخترع الصواريخ والسفن الفضائية ، فهذه الأمور ليست بيد أحد من الخلق
أجمعين ، بل بيد الله وحده سبحانه العليم الحكيم ، الذي خلق كل شيء بقدر ،
ولهذا قال تعالى : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " فإن كان الأمر بيد الله
تعالى ، والأمر إليه من قبل ومن بعد فلا يحق للآباء أن يفضلوا بين أبنائهم
من أجل أمور خارجة عن إرادة البشر أجمعين ، بل قد يكون هناك من الآباء من
أهو أشد غباءً من ابنه ، ومع ذلك يفضل بعض الأبناء على بعض بسبب تلك
الظاهرة .
3- أن يكون أحدهم محبوباً دون الآخرين لكثرة حركته أو قلة حركته ، فهذه
كسابقتها ، لا يجوز لأحد أن يفرق بين أبنائه في التعامل والعطية والمحبة من
أجل مثل ذلك الأمر ، فمن كان السكون طبعه فكل الناس يرجو مثل هذا الولد ،
ومن كان مشاكساً ومشاغباً وكثير الحركة ، فالتعليم يجدي فيه ، بأن يكتسب
الهدوء والسكينة بما يتلقاه من التعليم من قبل الوالدين ، وليس هذا مسوغاً
في التفريق بين الأبناء في المعاملة .
4- أن يكون أحدهم مصاباً بعاهات جسدية ظاهرة ، فهذا بدل التفريق يحتاج إلى
الكثير من الحنان والمحبة ، حتى يخرج من محنته التي هو فيها ، فقد تكون هذه
العاهات سبباً لتسميته بها ، وهذا أمر محرم بنص الكتاب الكريم فقد قال
الله تعالى : " ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب " قال بن كثير رحمه
الله : لا تتداعوا بالألقاب وهي التي يسوء للشخص سماعها . وقال بن جرير
الطبري : والذي هو أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن
الله تعالى ذكره ، نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب ، والتنابز بالألقاب :
هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة ، فغير جائز لأحد من
المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه أو صفة يكرهها .
واجب الوالدين نحو الأولاد :
فعلى الوالد والوالدة أن يتقوا الله تعالى وأن يعدلوا بين أبنائهم في كل
أمور حياتهم ، ولا يفرقوا بين أحد منهم ، فهم أبناء بطن واحد ورجل واحد ،
وجاء في الحديث في الإحياء ، قوله صلى الله عليه وسلم : " رحم الله والداً
أعان ولده على بره " [ والحديث ضعيف ضعفه الألباني والحافظ العراقي انظر
الضعيفة 1946] ، لكن معنى الحديث صحيحاً ، فالعدل بين الأولاد من أعظم
أسباب الإعانة على البر ، وعلى النقيض من ذلك ، فالتفريق بين الأولاد من
أعظم أسباب العقوق والهجر والكراهية .
يقول يزيد بن معاوية : أرسل أبي إلى الأحنف بن قيس ، فلما وصل إليه قال له :
يا أبا بحر ، ما تقول في الولد : قال يا أمير المؤمنين : ثمار قلوبنا ،
وعماد ظهورنا ، ونحن لهم أرض ذليلة ، وسماء ظليلة ، وبهم نصول على كل جليلة
، فإن طلبوا فأعطهم ، وإن غضبوا فأرضهم ، يمنحوك ودهم ، ويحبونك جهدهم ،
ولا تكن عليهم ثقلاً ثقيلاً ، فيملوا حياتك ، ويودوا وفاتك ، ويكرهوا قربك ،
فقال له معاوية : لله أنت يا أحنف ، لقد دخلت علي وأنا مملوء غضباً وغيظاً
على يزيد ، فلما خرج الأحنف من عنده ، رضي عن يزيد وبعث إلى يزيد بمائتي
ألف درهم ، ومائتي ثوب . [ إحياء علوم الدين 2/295 ] .
وجاء رجل إلى عبدالله بن المبارك يشكو إليه ولده ، فقال : أدعوت عليه ؟ قال
: نعم ، قال : أنت أفسدته . وهذا أمر خطير وهو الدعاء على الأولاد ، فكما
أن الدعاء لهم مستجاب إن شاء الله فالدعاء عليه مستجاب أيضاً . فليحذر
الآباء من الدعاء على الأبناء في كل صغير ة وكبيرة ، فهذا من أشد الأمور
خطراً في انحراف الأولاد . قال صلى الله عليه وسلم : " ثلاث دعوات مستجابات
: دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ، ودعوة الوالد على ولده " [ أخرجه ابن
ماجة وغيره وصححه الألباني ] ، فانتبهوا أيها الأخوة فالأمر خطير ، والخطب
جسيم ، فليس هناك أمر يدعو الآباء للدعاء على أبنائهم ، فالكل يخطئ ،
والواجب على الآباء والأمهات ، أن يكثروا من الدعاء لأبنائهم ، فهم فلذات
الأكباد ، وهم عماد الأمة ، وهم زينة الحياة الدنيا ، فكم هم الذي حرموا
الإنجاب ، ويسعون في الأرض بحثاً عن سبب أو طريقة تعينهم بعد الله على
الإنجاب ، فنعمة الأولاد لا يعرفها إلا من حرمها ، وكذا كل نعمة لا يعرف
قدرها إلا من حرمها . فالواجب على الآباء والأمهات أن يتحينوا أوقات إجابة
الدعاء ويدعوا لأبنائهم بالهداية والصلاح واتباع نهج المصطفى صلى الله عليه
وسلم ، وعليهم أن يتخذوا الأسباب المؤدية إلى ذلك ، من المحافظة على
الأبناء من أصدقاء السوء وأهل الشر والفساد ، وعدم السماح لهم بالخروج كل
وقت وحين ، وإذا خرجوا كانوا تحت الملاحظة خصوصاً في زمن الفضائيات وكثرة
الانفتاحية التي عمت أنحاء العالم ، وعدم إعطائهم المال بدون سبب ، فهو
سبيل للوقوع في شرب الدخان ومن ثم فهو بوابة للدخول في عالم المخدرات ،
والنتيجة هي الجنون أو الانتحار أو السجن أو القصاص والعياذ بالله ، وهناك
أسباب أخرى ليس هذا هو محل بحثها واستقصائها ، ولكن من قبيل التعريج عليها
لأنها تخص ما نحن بصدده من العقوق والبر ، والعدل بين الأولاد .
أدلة وجوب العدل بين الأبناء :
ولقد جاءت الآيات والأحاديث متضافرة مشهورة معلومة ، دالة على وجوب العدل ،
محذرة من الحيف والظلم والجور ، أو التفريق بين الأبناء في الهبات
والعطايا ، فمن الكتاب العزيز :
1- قوله تعالى : " وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو
كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على
صراط مستقيم " .
2- قال تعالى : " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " .
3- قال تعالى : " وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون " .
وأما الأدلة على العدل من السنة المطهرة فإليكم طرفاً منها :
1- عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن
عز وجل وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولُوا " [
أخرجه مسلم واللفظ له والنسائي ] .
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة ، فإذا أوصى وصية حاف في وصيته
فيختم له بشر عمله ، فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين
سنة ، فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله ، فيدخل الجنة " قال أبو هريرة :
واقرأوا إن شئتم { تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من
تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله
ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين } " [ أخرجه أبو داود
والترمذي وقال : حديث حسن صحيح غريب ، وأخرجه ابن ماجة ] .
3- وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، أن أمه بنت رواحة سألت أباه بعض
الموهوبة من ماله لابنها فالتوى بها سنة ، ثم بدا له ، فقالت : لا أرضى حتى
تُشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وهبت لابني ، فأخذ أبي بيدي ،
وأنا غلام فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال يا رسول الله إن أم
هذا ، بنت رواحة أعجبها أن أشهدك على الذي وهبت لابنها ، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : يا بشير ألك ولد سوى هذا ؟ قال : نعم ، فقال : "
أكلهم وهبت له مثل هذا ؟ قال : لا ، قال : " فلا تشهدني إذاً ، فإني لا
أشهد على جور " [ أخرجه مسلم ] .
4- وعند البخاري والنسائي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فكل بنيك
نحلت مثل الذي نحلت النعمان ؟ قال : لا ، قال : فأشهد على هذا غيري ، قال :
" أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء ؟ قال : بلى ، قال فلا إذاً " .
5- وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أشهد ، إني لا أشهد
إلا على حق " . وفي رواية عند البخاري : " اعدلوا بين أولادكم في العطية " ،
وفي رواية أخرى أيضاً عند البخاري : " أعطيت سائر ولدك مثل هذا ؟ قال : لا
، قال : " فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم " قال : فرجع فرد عطيته .
6- وفي رواية قال له : " فاردده " ، فرجع في هبته .
7- وروى ابن أبي الدنيا بسنده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اعدلوا
بين أولادكم في النحل ، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف " [
حديث صحيح 1 172 ] .
8- قال صلى الله عليه وسلم : " اعدلوا بين أبنائكم ، اعدلوا بين أبنائكم " [
أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم بسند صحيح ، وصححه
الألباني ] .
9- وفي صحيح مسلم أن امرأة بشير قالت له : انحل ابني غلاماً وأشهد لي رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن
ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلاماً ، قال : " له أخوة " ، قال : نعم ،
قال : " أفكلهم أعطيت مثل ما أعطيته ؟ " قال : لا ، قال : " فليس يصلح هذا ،
وإني لا أشهد إلا على حق " .
10- وقال الحسن : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه إذ جاء
صبي حتى انتهى إلى أبيه ، في ناحية القوم ، فمسح رأسه وأقعده على فخذه
اليمنى ، قال : فلبث قليلاً ، فجاءت ابنة له حتى انتهت إليه ، فمسح رأسها
وأقعدها في الأرض ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فهلا على فخذك
الأخرى " ، فحملها على فخذه الأخرى ، فقال صلى الله عليه وسلم : " الآن
عدلت " .
11- وروي عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله ضم ابناً له ، وكان يحبه ، فقال :
يا فلان ، والله إني لأحبك ، وما أستطيع أن أوثرك على أخيك بلقمة . [
إسناده مقبول ] .
12- ويهيمن على كل تلك الأدلة هذا الدليل العظيم الخطورة ، الذي قال فيه
صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش
لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة " [ متفق عليه ] .
ومن لم يعدل بين أولاده أو يساوي بينهم بالمعروف وبالحق والقسطاس المستقيم ،
فقد نكب عن جادة الصواب ، وغالط نفسه ، ولم يأبه بالأدلة ، فهو غاش
لأولاده ، وظالم في عدم التسوية بينهم . فهو مستحق للعقوبة والعياذ بالله .
قال الشيخ عبد الله البسام رحمه الله تعالى :
لا تجوز الشهادة في مثل ذلك لا تحملاً ولا أداءً ، وقال العلماء : يجب
الإنكار على من خالف ففضل بعض أولاده على بعضهم في الهبة ، لأنه حيف وظلم ،
والنبي صلى الله عليه وسلم أنكر على بشير بن سعد رضي الله عنه تفضيله ولده
النعمان على إخوانه . والحق الذي لا شك فيه وجوب التسوية بين الأولاد ،
لما فيه من المصالح الكبيرة ، ودفع المضار والمفاسد الوخيمة . [ توضيح
الأحكام 4/263-265 ] .
ظلم الإناث :
لقد كانت المرأة في العصور الجاهلية القديمة تعد من سقط المتاع ، بل هي من
ضمن الميراث ، فلا ميراث لها عند أولئك الكفرة الفجرة ، أولئك الجهلة
الظلمة ، إلى أن جاء النور المحمدي الشريف من لدن رب العزة والجلال ، فرفعت
المرأة رأسها ، وأشرفت على الناس أجمعين ، شامخة أبية ، فقد أنصفها الدين
الإسلامي وجعلها مساوية للرجل ، إلا فيما فضل الشارع الرجل عن المرأة ،
كالقوامة ، وجعل الطلاق بيد الرجل ، وجعل شهادة رجل واحد بشهادة امرأتين ،
ودية المرأة نصف دية الرجل ، وهكذا نرى أن الإسلام حفظ للمرأة مكانتها ،
وصان عرضها وعفافها ، فأعطيت جميع الحقوق ، ومن ذلك الميراث ، قال تعالى : "
يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " ، فالمرأة في الميراث
تأخذ نصف ميراث الرجل ، لأن الرجل هو المسؤول عن الإنفاق ، وهو المكلف بجلب
المهر للمرأة ، أما المرأة فلا نفقة عليها للزوج ، ولا مهر عليها ، لذا
كان نصيبها من الميراث نصف ما للرجل ، وهذه حكمة عظيمة بالغة من لدن حكيم
خبير ، والمصيبة العظمى ، والطامة التي لا مثيل لها عندما نجد بعض المسلمين
ممن ينتسبون إلى هذا الدين ، وهم يغالطون أنفسهم ببعدهم عن خالقهم ،
وتركهم لسنة نبيهم ، وذلك بهضم حقوق المرأة في الميراث ، وعدم إعطائها أياً
من حقوقها جهلاً بحقوق المرأة التي حفظها الإسلام ، وتساهلاً بأوامر الدين
، فالمرأة لها من الميراث ما قضى به الشارع الكريم ، فإما أن تكون بنتاً ،
أو أماً أو أختاً أو زوجة أو غير ذلك ، فلكل واحدة نصيبها من الميراث وفق
الشرع ، ويحرم هضم حقوق المرأة من الميراث ، أو كتابة الوصية للذكور دون
الإناث ، ويحرم إعطاء البنات جزءاً من أرض ، وتخصيص الذكور بالأجزاء
الكبيرة من الميراث ، لما في ذلك من ظلم للبنات . بل الصواب في ذلك أنه لا
وصية لوارث ، كما صح الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإعطاء المرأة
حقها من الميراث وفق الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة ، والحذر كل الحذر
من ظلم الإناث ، أو أكل حقوقهن ، أو عضلهن ، أو منعهن من الميراث ، فكل ذلك
حرام ، لم تحله الشريعة الإسلامية ، بل أبطلت مثل تلك العادات الجاهلية
القديمة ، وعلى الولي والأب أن يتق الله في نفسه ، فهو قادم على ربه تبارك
وتعالى ، فلا يلقى ربه وعليه مظلمة لأحد من الناس ، فكيف إذا كان المظلوم
والمغبون والمغشوش هو البنت ، التي أمر الإسلام بتوقيرها ، ورَفْعِ مكانتها
، وإعْلاءِ شأنها ، وحَرَّمَ ظُلمها ، أو الاستهتار بها ، أو أكْلِ
حُقُوقِها ، الميراث ياعباد الله لا يقسم عن جهل ، وتعصب لأحد دون الآخر ،
هذا من أعظم الظلم ، ومن أعظم الاعتراض على كتاب الله ، وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم ، فلا يوزع الميراث إلا وفق ما جاءت به الآيات الكريمات ،
ووفق ما جاء في السنة المطهرة ، وذلك عن طريق العلماء أو عن طريق المحاكم
الشرعية ، التي تحكم بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ،
والتي لا يكون فيها محاباة لأحد دون أحد ، أما أن يوزع الميراث عشوائياً ،
فهذا حرام لا يجوز ، وصاحبه معاقب ، ومأزور غير مأجور ، قال صلى الله عليه
وسلم : " من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها ـ يعني
الذكر ـ أدخله الله الجنة " [ أخرجه أبو داود والحاكم وقال صحيح الإسناد ] ،
ومفهوم الحديث أن من فضل الذكور على الإناث فلن يدخل الجنة ، بل سيدخل
النار والعياذ بالله ، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً : " سووا بين
أولادكم في العطية ، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء " [ أخرجه البيهقي
في السنن ، وسعيد بن منصور في سننه وحسن إسناده الحافظ بن حجر ] ، فعلينا
معاشر المسلمين أن نعتز بديننا ونفخر بشريعتنا ، فلم تترك صغيرة ولا كبيرة
مما يحتاجه المسلم والمسلمة في أمور دينه إلا وبينته بياناً شافياً كافياً ،
فلله الحمد من قبل ومن بعد .
سؤال :
يقول السائل والده توفي ، وقد قسم تركته بين أولاده الثلاثة وبناته الثلاث
قبل موته ، لكنه زاد الذكور ، فأعطى كل واحد من الذكور الثلاثة قطعة أرض
لبنائها ، وقام كل واحد منهم ببناء أرضه وسكنها هو وأولاده ، فهل للأخوات
حق في تلك الأراضي ؟
الجواب :
إذا كانت الأخوات قد رضين بذلك ، فلا حرج عليكم ، وإن كن لم يرضين فالواجب
إعطاؤهن حقهن من الأرض مقسماً لهن على حساب الميراث ، للذكر مثل حظ
الأنثيين . [فتاوى اللجنة الدائمة 16/237 ] .
وكما أنه لا يجوز تفضيل الذكور على الإناث ، فكذلك لا يجوز تفضيل الإناث
على الذكور ، وتخصيصهن بعطية أو هبة أو صدقة دون الذكور ، فهذا لا يجوز ومن
فعل ذلك فقد ارتكب إثماً عظيماً . ولا يحل لأب أن ينحل بعض أولاده على بعض
، ومن فعل ذلك بالكلام دون التسليم والقبض ، أو فعله وهو في مرض الموت ،
أو المرض المخوف ، فهذا مردود باتفاق العلماء إلا خلافاً شاذاً لا يُعتد به
. وأما إن قبض بعض الأبناء ما أعطي لهم ، ففيه خلاف بين العلماء ، والصواب
في ذلك أن عليهم رده شرعاً ، وهو الذي تشهد له الأدلة السابقة ، وعليهم أن
يقتسموه بينهم وفق ما جاء في كتاب الله تعالى ، للذكر مثل حظ الأنثيين .
والعلم عند الله تعالى . [ مجموع الفتاوى 31/296-297 ] .
أقوال العلماء في العدل بين الأولاد :
يقول البخاري رحمه الله :
إذا أعطى الوالد بعض ولده شيئاً لم يجز حتى يعدل بينهم ويعطي الآخر مثله .
واختلف العلماء في وجوب التسوية بين الأولاد في العطية إلى قولين :
القول الأول :
ذهب الحنفية والمالكية والشافعية إلى أن التسوية بينهم في العطايا مستحبة ،
وليست واجبة . لأن الصديق رضي الله عنه فضل عائشة رضي الله عنها على غيرها
من أولاده في الهبة ، وفضل عمر رضي الله عنه ابنه عاصماً بشيء من العطية
على غيره من أولاده . ولأن في بعض روايات حديث النعمان بن بشير رضي الله
عنهما : " فأشهد على هذا غيري " ما يدل على الجواز . [ الموسوعة الفقهية
11/359 ] .
ويجاب على ذلك بجوابين :
الأول : أما من جهة ما أعطاه الصديق لعائشة رضي الله عنها ، فقد قال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى :
لا يعارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر ولا قول غيره ، لكن
يُجمع بين حديث النعمان بن بشير وحديث عائشة : أن أباها نحلها جذاذ عشرين
وسقاً ، يحتمل أن أبا بكر رضي الله عنه خصها لحاجتها وعجزها عن الكسب ،
والسبب مع اختصاصها بفضلها ، وكونها أم المؤمنين ، وغير ذلك من فضائلها ،
ويحتمل أن يكون نحلها ونحل غيرها من ولده ، أو نحلها وهو يريد أن ينحل
غيرها فأدركه الموت قبل ذلك ، ويتعين حمل حديثه على أحد هذه الوجوه . [
مجموع فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 9/220 ] .
والثاني : من جهة قوله صلى الله عليه وسلم : " فأشهد على هذا غيري " ، فقد قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى :
قوله صلى الله عليه وسلم : " أشهد على هذا غيري " ، هذا أمر تهديد لا إباحة
، فإن تلك العطية كانت جوراً بنص الحديث ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يأذن لأحد أن يشهد على صحة الجور ، ومن ذا الذي كان يشهد على تلك العطية
، وقد أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشهد عليها ، وأخبر أنها لا
تصلح ، وأنها جور ، وأنها خلاف العدل . ومن العجيب أن يحمل قوله : " اعدلوا
بين أولادكم " على غير الوجوب ، وهو أمر مطلق مكرر ثلاث مرات ، والعدل
واجب في كل حال فلو كان الأمر به مطلقاً لوجب حمله على الوجوب ، فكيف وقد
اقترن به عشرة أشياء تؤكد وجوبه ، فتأملها في ألفاظ القصة . [ تحفة المودود
بأحكام المولود 385 ] .
القول الثاني :
وذهب الحنابلة ، وأبو يوسف من الحنفية ، وهو رواية عن الإمام مالك ، وهو
قول ابن المبارك وطاووس ، إلى وجوب التسوية بين الأولاد في الهبة ، فإن خص
بعضهم بعطية ، أو فاضل بينهم فيها ، فهو آثم ، ووجبت عليه التسوية بأحد
أمرين :
إما رد ما فضل به البعض ، وإما إتمام نصيب الآخرين ، ويشهد لذلك حديث النعمان بن بشير بجميع ألفاظه . [ الموسوعة الفقهية 11/359 ] .
الراجح :
والقول الراجح في ذلك هو القول الثاني ، وهو وجوب التسوية بين الأبناء في العطية والهبة ، وهو القول الذي تسنده الأدلة .
أما أقوال المعارضين ومن قال بعدم وجوب التسوية ، فقد احتجوا بعدة أمور ،
وأجاب عنها الحافظ بن حجر رحمه الله ، وقد احتجوا بالندب وعدم الوجوب بعشرة
وجوه وإليكها للفائدة :
الوجه الأول :
أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده ولذلك منعه فليس فيه حجة على منع
التفضيل حكاه بن عبد البر عن مالك بالإجماع بأن كثيراً من طرق حديث النعمان
صرح بالبعضية وقال القرطبي ومن أبعد التأويلات أن النهي إنما يتناول من
وهب جميع ماله لبعض ولده كما ذهب إليه سحنون وكأنه لم يسمع في نفس هذا
الحديث أن الموهوب كان غلاما وأنه وهبه له لما سألته الأم الهبة من بعض
ماله قال وهذا يعلم منه على القطع أنه كان له مال غيره .
الوجه الثاني :
أن العطية المذكورة لم تتنجز وإنما جاء بشير يستشير النبي صلى الله عليه
وسلم في ذلك فأشار عليه بأن لا تفعل فترك حكاه الطحاوي وفي أكثر طرق حديث
الباب ما ينابذه .
الوجه الثالث :
أن النعمان كان كبيرا ولم يكن قبض الموهوب فجاز لأبيه الرجوع ذكره الطحاوي
وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث أيضا خصوصا قوله أرجعه فإنه يدل على تقدم
وقوع القبض والذي تضافرت عليه الروايات أنه كان صغيرا وكان أبوه قابضاً له
لصغره فأمر برد العطية المذكورة بعد ما كانت في حكم المقبوض .
الوجه الرابع :
أن قوله أرجعه دليل على الصحة ولو لم تصح الهبة لم يصح الرجوع وإنما أمره
بالرجوع لأن للوالد أن يرجع في وهبه لولده وأن كان الأفضل خلاف ذلك لكن
استحباب التسوية رجح على ذلك فلذلك أمره به وفي الاحتجاج بذلك نظر والذي
يظهر أن معنى قوله أرجعه أي لا تمض الهبة المذكورة ولا يلزم من ذلك تقدم
صحة الهبة .
الوجه الخامس :
أن قوله أشهد على هذا غيري إذن بالإشهاد على ذلك وإنما أمتنع من ذلك لكونه
الإمام وكأنه قال لا أشهد لأن الإمام ليس من شأنه أن يشهد وإنما من شأنه أن
يحكم حكاه الطحاوي أيضا وارتضاه بن القصار وتعقب بأنه لا يلزم من كون
الإمام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة ولا من أدائها إذا
تعينت عليه وقد صرح المحتج بهذا أن الإمام إذا شهد بعض نوابه جاز وأما قوله
إن قوله أشهد صيغة إذن فليس كذلك بل هو للتوبيخ لما يدل عليه بقية ألفاظ
الحديث وبذلك صرح الجمهور في هذا الموضع وقال بن حبان قوله أشهد صيغة أمر
والمراد به نفي الجواز وهو كقوله لعائشة اشترطي لهم الولاء انتهى .
الوجه السادس :
التمسك بقوله ألا سويت بينهم على أن المراد بالأمر الاستحباب وبالنهي
التنزيه وهذا جيد لولا ورود تلك الألفاظ الزائدة على هذه اللفظة ولا سيما
أن تلك الرواية بعينها وردت بصيغة الأمر أيضا حيث قال سوي بينهم .
الوجه السابع :
وقع عند مسلم عن بن سيرين ما يدل على أن المحفوظ في حديث النعمان قاربوا
بين أولادكم لا سووا وتعقب بأن المخالفين لا يوجبون المقاربة كما لا يوجبون
التسوية . الوجه الثامن :
في التشبيه الواقع في التسوية بينهم بالتسوية منهم في بر الوالدين قرينة
تدل على أن الأمر للندب لكن إطلاق الجور على عدم التسوية والمفهوم من قوله
لا أشهد إلا على حق وقد قال في آخر الرواية التي وقع فيها التشبيه قال فلا
إذا .
الوجه التاسع :
عمل الخليفتين أبي بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم على عدم التسوية
قرينة ظاهرة في أن الأمر للندب فأما أبو بكر فرواه الموطأ بإسناد صحيح عن
عائشة أن أبا بكر قال لها في مرض موته إني كنت نحلتك نحلا فلو كنت اخترتيه
لكان لك وإنما هو اليوم للوارث وأما عمر فذكره الطحاوي وغيره أنه نحل ابنه
عاصما دون سائر ولده وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن اخوتها كانوا راضين
بذلك ويجاب بمثل ذلك عن قصة عمر .
الوجه العاشر :
أن الإجماع انعقد على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده فإذا جاز له أن يخرج
جميع ولده من ماله جاز له أن يخرج عن ذلك بعضهم ذكره بن عبد البر ولا يخفى
ضعفه لأنه قياس مع وجود النص . [ فتح الباري 5 / 264-265 ] .
أحكام مهمة :
1- تفضيل بعض الأبناء على بعض لا يجوز ، وإنما المشروع في عطية الأولاد هو
التسوية بينهم في العطاء على السواء ، ولا يجوز التفضيل إلا لمسوغ شرعي ،
كأن يكون أحدهم مقعداً لا يستطيع العمل ، أو كونه صاحب عائلة كبيرة ولا
يكفي راتبه بالإنفاق عليهم ، أو كونه مشتغلاً بطلب العلم ، وتصرف العطية عن
بعض الأولاد بسبب فسقه ومعاصيه ، أو عقوقه لوالديه ، أو بدعته ، أو لكونه
يعصي الله فيما يأخذه من العطية والهبة . وهذا هو قول الإمام أحمد رحمه
الله ، فإنه قال في تخصيص أحدهم بالوقف : لا بأس إذا كان لحاجة ، وأكرهه
إذا كان على سبيل الأثرة ـ يعني الإيثار ـ ، والعطية في معناه . ويجوز
التفضيل إذا سمح بقية الأخوة بذلك .
أو كان أحد الأبناء يقوم على خدمة والده أو والدته والقيام بشؤونه ، فيجوز
إعطاؤه بقدر أجرة المثل ولا يزيد على ذلك ، حتى لا يقع في التفضيل .
يقول الشيخ عبدالله البسام :
إذا خص الوالد بعض أولاده دون بعض ، أو فضله دون البعض الآخر بلا مسوغ شرعي
، ثم مات الوالد قبل أن يرجع فيما خص به ، ولا بما زاد به بعضهم على بعض ،
فهل تمضي العطية لمن أُعطيها ، والإثم على الوالد المُفَضِل بينهم ؟ أم
يرجع الورثة على المُعْطَى ويكونون فيها سواء ؟ [ سيأتي بيان آخر للمسألة
فيما بعد إن شاء الله ] . ذهب جمهور العلماء إلى القول الأول ، ومنهم
الأئمة الأربعة . والرواية الأخرى عن الإمام أحمد أن العطية لا تثبت ،
وللباقي الرجوع ، واختاره ابن عقيل ، والعكبري ، والشيخ تقي الدين ، وصاحب
الفائق ، واختاره الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب ، وهو قول عروة بن
الزبير ، وإسحاق . [ توضيح الأحكام 4/265 ] .قلت : والقول الثاني هو الصحيح
وهو الذي اختاره شيخ الإسلام وغيره من العلماء المتأخرين ، لما فيه من
الظلم والله تعالى نهى عن الظلم وحرمه على نفسه وعلى عباده ، فكيف تمضي
العطية وهي ظلم ، بل العدل كل العدل أن توزع بين الأخوة والأخوات ، حتى لا
يقع النزاع والخصومة بينهم ، ويفضي ذلك إلى القطيعة والكراهية والبغضاء ،
بل قد يقتتلون من أجل ذلك الأمر ، وقد يؤدي بهم ذلك إلى كراهية والدهم ،
فحفظاً للأواصر وصلة الرحم ، وإبراءً للذمة ، وخلاصاً لوالدهم من الإثم ،
كان الصحيح في ذلك هو توزيع العطية بين الورثة حسب ما جاء في كتاب الله
تعالى ، للذكر مثل حظ الأنثيين .
2- من أراد قسمة شيء من ماله بين أولاده فيجب عليه أن يقسمه بين الذكور
والإناث مثل الميراث ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، وقال بعض العلماء بل يقسمه
بالتساوي في حياته ، أما بعد الممات فيكون القسم للذكر مثل حظ الأنثيين كما
أمر الله به ، وهذا مقتضى العدل ، ولعل الصواب في ذلك القول الثاني والعلم
عند الله تعالى ، وهو أن يقسمه بالتساوي ، لما دل عليه حديث النعمان بن
بشير رضي الله عنهما بعدم التفريق بين الذكر والأنثى ، وهذا هو قول جمهور
العلماء . والذي اختارته اللجنة الدائمة للذكر مثل حظ الأنثيين ، لقول عطار
رحمه الله : ما كانوا يقسمونه إلا على كتاب الله تعالى . وهذا مذهب
الحنابلة ومحمد بن الحسن من الحنفية ، وقالوا : أن المشروع في عطية الأولاد
القسمة بينهم على قدر ميراثهم ، أي للذكر مثل حظ الأنثيين ، لأن الله
سبحانه وتعالى قسم لهم في الإرث هكذا ، وهو خير الحاكمين ، وهو العدل
المطلوب بين الأولاد في الهبات والعطايا ، فلو بقي هذا العطاء إلا ما بعد
وفاة المعطي فإنه سيقسم وفق المواريث ، أي للذكر مثل حظ الأنثيين ، فالله
أعدل الحاكمين ، وقد حكم بذلك بين الأولاد ، فكان من الواجب اتباع الكتاب
والسنة في ذلك .
3- ولا يجب على الإنسان التسوية بين أقاربه ولا إعطاؤهم على قدر ميراثهم ،
لأن الأصل إباحة الإنسان التصرف في ماله كيف شاء ، ولا يصح قياسهم على
الأولاد ، وهذا هو القول الراجح . [ توضيح الأحكام 4/266 ] .
4- فإن كان في بطن الأم حملاً ، فإنه ينتظر حتى يوضع فيقسم له مع أخوته
بالتساوي ، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مسألة شبيهة
بهذه المسألة .
سؤال :
رجل له بنتان ، وله امرأة مطلقة وهي حامل ، وكتب لابنتيه ألفي دينار ،
وأربع أملاك ، ثم بعد ذلك ولد للمطلقة ولد ذكر ، ولم يكتب له شيئاً ، ثم
بعد ذلك توفي الوالد وخلف موجوداً خارجاً عما كتبه لبنتيه ، وقسم الموجود
بينهم على حكم الفريضة الشرعية ، فهل يفسخ ما كتب للبنات أم لا ؟
فأجاب :
هذه المسألة فيها نزاع بين أهل العلم ، إن كان قد ملك البنات تمليكا تاما
مقبوضا . فإما أن يكون كتب لهن في ذمته ألفي دينار من غير إقباض ، أو
أعطاهن شيئاً ولم يقبضه لهن : فهذا العقد مفسوخ ، ويقسم الجميع بين الذكر
والأنثيين . وأما مع حصول القبض : ففيه نزاع . وقد روي أن سعد بن عبادة قسم
ماله بين أولاده ، فلما مات ولد له حمل ، فأمر أبو بكر وعمر أن يعطى الحمل
نصيبه من الميراث ، فلهذا ينبغي أن يفعل بهذا كذلك ، وعلى البنات أن يتقين
الله ويعطين الابن حقه ، وأما إذا وصى لهن بعد موته فهي غير لازمة باتفاق
العلماء ، والصحيح من قولي العلماء أن هذا الذي خص بناته بالعطية دون حمله ،
يجب عليه أن يرده بعد موته ، طاعة لله ولرسوله ، واتباعاً للعدل الذي أُمر
به ، واقتداءً بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما . [ مجموع الفتاوى 31/276 ] .
5- ولا تجوز الزيادة لأحد من الأبناء على أحد باسم صدقة أو هبة أو بيع بأقل
من ثمن المثل ، إلا إذا سمح الآخرون ، وكانوا مرشدين ، ويسري سماح كل واحد
في حقه دون حق غيره ، فلا ينوب أحد عن أحد في التنازل .
6- ويحرم كتابة بيع وشراء صوري لا حقيقة له ، لأحد الأبناء دون الآخرين ،
لأنه من الظلم والجور ، والتعدي على حقوق الآخرين . أما إن كان البيع
حقيقياً فلا بأس بذلك ، لأن الابن في ذلك مثل الغريب في البيع والشراء .
7- والأفضل أن يترك الوالد قسمة أمواله إلا ما بعد موته ، حتى تكون ميراثاً
للأبناء والبنات من بعده ، توزع وفق الشرع المطهر ، ويخرج من تبعة القسمة
الغير عادلة .
8- ومن أصر على توزيع ماله على بعض أبنائه دون بعض أو تفضيل بعضهم على بعض ،
فهو آثم والعياذ بالله ، وعليه أن يتق الله تعالى في أولاده وأن يعدل
بينهم ، كما يحب هو أين يكونوا في بره سواء ، ومن أخذ شيئاً من الأبناء مما
لا يحل له ، فهو آثم لمشاركته في الإثم والعدوان ، وجور الوالد أو الوالد
في العطية ليس مسوغاً شرعياً بقبولها ، قال تعالى : " وتعاونوا على البر
والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ، ومن أخذ أكثر من إخوانه يجب
عليه رد الزيادة ، أو قبولها إذا كان في رده إغضاباً لوالديه ، ومن ثم
توزيعها بالتساوي مع اخوته ، براءة للذمة ، وإنصافاً لإخوانه ، ورأفة
بالوالد أو الوالدة من عقوبة الحيف والجور في العطاء .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا السؤال :
امرأة لها أولاد غير أشقاء ، فخصصت أحد الأولاد وتصدقت عليه بحصة من ملكها
دون بقية إخوته ، ثم توفيت المذكورة وهي مقيمة بالمكان المتصدق به . فهل
تصح الصدقة أم لا ؟
الجواب :
الحمد لله . إذا لم يقبضها حتى ماتت بطلت الهبة في المشهور من مذهب الأئمة
الأربعة ، وإن أقبضته إياه لم يجز على الصحيح أن يختص به الموهوب له ، بل
يكون مشتركاً بينه وبين إخوته . والله أعلم . [ مجموع الفتاوى 31/272 ] .
الفرق بين النفقة والحاجة والعطية :
وهناك فرق بين الإنفاق والعطية ، فالإنفاق واجب على الوالد تجاه أولاده ،
وليس بشرط أن يعدل بينهم في الإنفاق ، فقد يحتاج أحدهم إلى أكثر مما يحتاجه
الآخرين ، فمثلاً قد يكون أحدهم طالباً في جامعة أو كلية والآخرين في
الابتدائي أو المتوسط ، فلا شك أن طالب الجامعة يحتاج من المصاريف أكثر مما
يحتاجه من هو أقل منه تعليماً ، وقد يكون أحدهم طويلاً ، والآخر قصيراً ،
فيحتاج الطويل إلى خمسة أمتار من القماش ، ويحتاج الآخر إلى ثلاثة مثلاً ،
فلا يلزم التسوية بينهم في ذلك ، لأنه هذا من قبيل الإنفاق وليس من جهة
العطية والهبة ، وكذلك قد يكون أحدهم محتاجاً إلى الزواج ووالده قادر على
تزويجه ، فيجب عليه أن يزوج ابنه ما دام أن الولد محتاج إلى الزواج ، وما
يعطيه الوالد لولده من أجل تكاليف الزواج من باب النفقة ، وليس من باب
الهبة والعطية ، وعلى ذلك فلا يلزم الوالد أن يعطي البقية مثل ما دفعه
مهراً لأخيهم ، بل إذا قادراً على تزويجهم زوجهم كل حسب المهر المطلوب ،
فالمهر ، قد يكون غالياً أو رخيصاً ، وكذلك لو احتاج أحد لأبناء إلى العلاج
فدفع الأب تكاليف العلاج ، فإنه لا يلزمه أن يعطي بقية أولاده مثل ما دفعه
لعلاج أخيهم لأن تلك التكاليف كانت لحاجة ، وكذلك ما يعطيه الأب لأولاده
في المدارس من نقود فلا تجب التسوية بينهم في ذلك ، لأن طالب الابتدائي لا
يحتاج إلى ما يحتاج إليه طالب المتوسط والثانوي ، فقد يكفي أحدهم ريالين ،
ولا تكفي الآخرين ، فقد يعطي الوالد أحد أبنائه ثلاثة ريالات ، ويعطي الآخر
أربعة ، فهذه أمور احتياجية وليست من باب الهبة والعطية ، فالأمور بحسبها ،
المقصود من ذلك ، أن هناك فرق بين النفقة والحاجة ، وبين العطية والهبة من
حيث التسوية فيهما بين الأولاد .
لكن ثمة مسألة مهمة : وهي أن الأب قد يرسل أحد أبنائه لشراء شئٍ ما ،
فيشتري الابن تلك السلعة ، ويبقى معه بعض النقود ، فهنا قد يقول الأب ، خذ
الباقي ، فهذا لا يجوز حتى يعطي بقية أولاده مثله ، وإلا فإن الوالد يأخذ
الباقي ، من باب العدل بين الأولاد .
الرجوع في الهبة :
واستكمالاً للموضوع ، لابد من معرفة الحكم الشرعي فيما إذا أراد الوالد الرجوع في هبته ، وكذلك الرجوع في الهبة عامة .
وهذه جملة من الأحاديث الدالة على تحريم ذلك :
1- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : حملت على فرس في سبيل الله ،
فأضاعه الذي كان عنده ، فأردت أن أشتريه ، وظننت أنه يبيعه برخص ، فسألت
النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : " لا تشتره ، ولا تعد في صدقتك ، وإن
أعطاكه بدرهم ، فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه " وفي لفظ : " العائد
في هبته ، كالكلب يقيئ ثم يعود في قيئه " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
2- وعن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
: " لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية فيرجع فيها ، إلا الوالد فيما يعطي
ولده " [ أخرجه الخمسة بسند صحيح ، انظر الإرواء 6/65 ] .
3- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
ليس لنا مثل السوء ، العائد في هبته ، كالكلب يعود في قيئه " [ أخرجه
البخاري والترمذي والنسائي وغيرهم . انظر إرواء الغليل 6/64 ] .
قال الألباني رحمه الله تعالى في حديث ابن عباس :
الحديث بعمومه يفيد المنع من الرجوع في الهبة . [ السلسلة الضعيفة 1/540 ] .
وقال المبارك فوري في حديث ابن عباس :
الحديث دليل على تحريم الرجوع في الهبة ، ويستثنى منه الوالد فيما يعطي
ولده ، للحديث الآتي ، وخالف ذلك الحنفية فذهبوا إلى حِل الرجوع في الهبة ،
وقال بعضهم في تأويل هذا الحديث : إن قوله : " كالكلب يقيئ ثم يعود في
قيئه " يدل على عدم التحريم ، لأن الكلب غير مكلف ، فالقيء ليس بحرام عليه ،
قلت : لما كان الكلب غير مكلف لا يصح أن يقال إن القيء حلال له أو حرام
عليه ، لأن التحليل والتحريم من فروع التكليف ، كما لا يصح في الشجر أو
الحجر أن يقال إنه أعمى أو بصير ، لعدم كونه محلاً للعمى أو البصارة ، فلا
يمكن أن يكون التشبيه في هذا الحديث من حيث التحليل أو التحريم ، ولما لم
يمكن أن يكون التشبيه بأحد من هذين الوجهين ، لم يبق له دلالة على التحليل
أو التحريم أصلاً ، والتحريم ثابت بالنص الصريح فتعين المصير إليه ، وأما
التشبيه فهو لتقبيح هذا الحرام واستهجانه وإظهار شدة خبثه وفظاعته وسوء
منظره ، وليت شعري كيف يرضى إنسان أن ينزل إلى درجة الكلب ، ثم إلى درجة أن
يقيئ ثم يأكل قيئه . [ التعليق على بلوغ المرام 275 ] .
المقصود أن الحديث يدل على تحريم الرجوع في الهبة ، ولكن متى ؟ إذا قبضت ،
وذلك مقتضى التشبيه ، أن تكون الهبة قد خرجت من يد الواهب وانفصلت ، لأن
القيء قد انفصل من الكلب ثم رجع . فإذا وهب الإنسان شيئاً وأقبضه فإنه لا
يجوز له أن يرجع فيه فإن رجع كان ذلك حراماً ، وأما قبل القبض فليس الرجوع
فيها حراماً ، وليس من باب الرجوع في الهبة ولكن من باب إخلاف الوعد ، لأن
من وعد وجب عليه الوفاء ، وكون الإنسان يقول لآخر سأعطيك كذا ، فهذا من باب
الوعد فيلزم الوفاء به ، وإن أخلف الوعد فقد التحق بصفات المنافقين ،
ولهذا زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن صفات المنافقين ، وحذر منها أشد
تحذير ، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " آية المنافق
ثلاث إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن المطلوب " ، وعن عبد الله
بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أربع من كن فيه كان منافقاً
خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا
أؤتمن المطلوب ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر " [ أخرجه
البخاري ومسلم ، وزاد مسلم : " ولو صام وصلى وزعم أنه مسلم ] ، فالرجوع في
الهبة حرام سواءً كان قبل القبض أو بعده وهذا هو الراجح من أقوال العلماء
رحمهم الله تعالى .
لكن يجوز الرجوع في الهبة إذا كانت على سبيل المعاوضة ، كأن يعطي إنساناً
سيارة مثلاً على أن ينتظر منه أن يعطيه بدلها هدية أو يتقرب إليه للعمل
عنده ، وكان معروفاً أن من قدم هدية يجزى عليها أو ما شابه ذلك .
فالهبة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : هبة مطلقة لا تقتضي عوضاً ، لأنها عطية على وجه التبرع ،
يقصد بها التودد ، سواءً كانت لمن دونه أو أعلى منه أو مثله وهي الأصل .
القسم الثاني : هبة يقصد بها الثواب في الدنيا ، فهذه حكمها حكم البيع ،
والغالب أن المهدي يقصد بها أن يُعطى أكثر مما أهدى ، لأن الغالب أن
المُهدي فقير ، والمُهدى إليه أغنى منه ، وفيها نزل قوله تعالى : " ولا
تمنن تستكثر " ، أي لا تعطي شيئاً لتأخذ أكثر منه . فينبغي لصاحب الهدية
ألا يطمع في ابتزاز أموال الناس بل يقصد بهديته الأجر والمثوبة من عند الله
تعالى ، لكن من أعطى هدية وهو يطمع في الثواب والعوض ، فالأفضل أن يُعطى
حتى يرضى ، ولهذا جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : وهب رجل لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ناقة فأثابه عليها ، فقال : رضيت ؟ قال : لا ، فزاده ،
فقال : رضيت ؟ قال : لا ، فزاده ، فقال : رضيت ؟ قال : نعم ، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " لقد هممت أن لا أقبل إلا من قرشي أو أنصاري أو
ثقفي " [ حديث صحيح أخرجه أحمد وصححه ابن حبان . انظر بلوغ المرام ] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم
لقحة فأثابه منها بست بكرات فتسخطها الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : من يعذرني من فلان أهدى إلي لقحة فكأني أنظر إليها في وجه بعض أهله ،
فأثبته منه بست بكرات فتسخطها لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا أن تكون من
قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي " [ قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط مسلم
ولم يخرجاه ] . ولكن يُشرع لمن أُهدي إليه هدية أن يثيب عليها ، لما جاء
في الحديثين السابقين ، ولما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت : " كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويُثيب عليها " [ أخرجه البخاري ]
، وغير ذلك من الأدلة الدالة على مكافئة صاحب المعروف ، ولا شك أن الهدية
من المعروف ، لكن ينبغي لصاحبها ألا يطلب عليها أجراً أو ثواباً إلا من
الله تعالى ، لكن إن كان صاحب الهدية يرجو ثوابها من المهدى إليه فله ذلك ،
وإن لم يُعط بدلها فله الرجوع في هديته ، عن ابن عمر رضي الله عنهما . عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يُثب عليها
" [ الحديث صحيح ولكنه موقوف على عمر رضي الله عنه ، قال ابن حجر في
التلخيص : روي عن عمر رضي الله عنه ، وروي مرفوعاً وهو وهم ] ، فالحديث يدل
على أن هبة الثواب الدنيوي