نيويورك – نصري عصمت لعشر سنوات من عمرها لم تدرك
الطالبة الأمريكية من أصل فلسطيني "آلاء يوسف" (20 عاما) أنها مسلمة قبل
يوم 11 سبتمبر من عام 2001. كانت آلاء يومها في الصف الدراسي الخامس،
عندما هرعت إحدى المدرسات إلى فصلها في تلك المدرسة الابتدائية بمنطقة
يونكرز شمال مدينة نيويورك الأمريكية لتخبرهم أن بعض الطائرات تعرضت
للاختطاف دون أن يفهم الأطفال ما معنى ذلك، فيما تسابق الآباء لالتقاط
أبنائهم من المدرسة.
تقول آلاء التي صارت الآن طالبة جامعية في السنة الثالثة في جامعة نيويورك
بابتسامة تلقائية "أتذكر جيدا رؤية الدخان الأسود المتصاعد من نيويورك،
كانت رؤيته ممكنة من منطقتنا، ذهبت يومها مسرعة إلى البيت وارتميت في سريري
وانهمرت في البكاء، كنت أشعر بالذنب".
الشعور بالذنب والاحساس بالإضطهاد هو ما شعر به أغلب الأمريكين من أصول
عربية وإسلامية الذين عاشوا في المدينة الأمريكية التي تعرضت لأكبر خسائر
بشرية ومادية خلال هجمات الـ11 من سبتمبر، وهي مشاعر مايزال أكثر من 600
ألف مسلم من سكان نيويورك يقاومونها بعد مرور 10 سنوات كاملة.
وبلغ الصراع بين المشاعر المتضاربة أشده العام الماضي عندما ثار جدل كبير
بسبب موافقة عمدة مدينة نيويورك على إنشاء مركز إسلامي قريب من موقع برجي
مركز التجارة العالمي الذي كان هدفا للهجمات الإرهابية لتنظيم القاعدة، وهو
ما أثار غضب بعض المتشددين وبعض أقارب ضحايا الهجمات، في مقابل تأييد بعض
المواطنين الراغبين في إدماج المسلمين في المجتمع الأمريكي وتجاوز الذكريات
الحزينة.
وكشفت آلاء تبدل مشاعرها من الاحساس الذنب إلى الشجاعة والغضب بسبب تعرض أسرتها لبعض التصرفات العنصرية.
كان على آلاء أن تقاوم تعرض أسامة ابن خالتها إلى السخرية من زملائه في
ذات المدرسة بسبب اسمه الذي يذكرهم بقائد تنظيم القاعدة أسامة بن لادن،
كماتعرضت أمها إلى سخرية المارة بسبب ارتدائها للحجاب، وفي النهاية قرر
والدها الذي يعمل سائقا لسيارة أجرة وضع العلم الأمريكي فوق المنزل لإبعاد
المشككين في انتماء الأسرة للمجتمع التي تعيش فيه.
وتضيف آلاء التي اختارت دراسة اللغة الإنجليزية في الجامعة "تكررت هذه
الوقائع كثيرا بعد 11 سبتمبر فجعلتني أكثر وعيا بمن أكون وبأصلي العربي،
لكن الآن نادرا ما أتعرض للمضايقة".
ولا تشعر الطالبة الفلسطينية الأصل بالتمييز إلا عندما يعلق البعض على
بشرتها البيضاء وشعرها البني اللون بقولهم "ولكنك لا تبدين كالعرب".
إحساس آلاء بانتمائها إلى العالم العربي شجعها على تكوين جماعة لمحبي
الشعر العربي في جامعة نيويورك الواقعة في قلب المدينة جنوب منطقة مانهاتن
الشهيرة، وتنظم الجماعة أمسيات لإلقاء الشعر الفلسطيني على وجه الخصوص
والذي يعكس معاناة الشعب في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
الإسلام الليبرالي
ولا تخجل آلاء من إعلان شعورها ببعض التضارب بين تربيتها في بيت عربي
محافظ على التقاليد ونشأتها في مدينة متحررة مثل نيويورك التي تعد إحدى
معاقل الليبرالية في الولايات المتحدة وتقول "أحيانا أتمنى أن أكون قد نشأت
في الشرق الأوسط حتى لا أواجه هذا الصراع الداخلي، لكن في النهاية أنا أحب
هذه المدينة وأشعر أني مسلمة ليبرالية".
ورغم أن "الإسلام الليبرالي" هو تصنيف غير موجود تقريبا في عالم السياسة
إلا أن الجدير بالذكر أن مجموعات من شباب الأمريكيين المسلمين في نيويورك
يفضلون تسمية أنفسهم بـ"المسلمين اليبراليين"، ومنهم مجموعة منظمة تأسست
عبر موقع التواصل الاجتماعي "ميت أب Meet Up"،
وتعرف آلاء هذا الإتجاه بقولها "أؤمن بالإسلام وبأخلاقياته، وفي الوقت ذاته
أتمتع بقبول الآخر والإيمان بالحرية والتنوع العرقي والديني والسياسي، لا
أعرف إذا كان ذلك يجعل مني متدينة أم لا"، وتتمنى آلاء العمل كمدرسة لأن
هذه المهنة ستساعدها على تنشئة الأطفال في نيويورك على الأخلاق وعلى تقبل
الآخر.
وتلقي الشابة باللوم على الحكومة الأمريكية ونظيراتها العربية بسبب الصورة
السلبية للمسلمين نظرا لتدخلات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والتي
بلغت ذروتها بغزو العراق بالإضافة إلى غياب الديموقراطية في العالم العربي
وهو ما يشوه صورة المسلمين بأشكال مختلفة.
وقالت آلاء "بعد أي تهديد إرهابي أسمع تساؤلات من الأمريكيين من نوعية
(لماذا تكرهوننا؟)، فأرد عليهم بأن أي شخص أقدم على عمل انتحاري لابد أن
يكون قد تعرض لظرروف غير إنسانية في المقام الأول".
المسلمون تحت المجهر
آراء آلاء لا تعبر بالضرورة عن 2،6 مليون مسلم يعيشون في الولايات المتحدة
ويتمتعون بتنوع شديد، وهو الانطباع الذي تكشف عنه زيارة منطقة كوينز
وتحديدا حي أستوريا المعروف بالكثافة السكانية لذوي الأصول العربية، ففي
شارع ستينواي يوجد مسجد "الإيمان"، أحد أبرز مساجد منطقة كوينز، والمحاط
بعدد كبير من المتاجر التي تحمل أسماء عربية، ويملكها مصريون ومغاربة
ولبنانيون.
وبدخول متجر "وسام" للبقالة يشعر الزبون فورا بانتقاله إلى العالم العربي
إذ يستمع إلى آيات قرآنية قادمة من سماعات داخل المتجر، بينما تراصت عبوات
البقالة ومستلزمات المنزل من كافة الأصناف العربية المستوردة، ويحمل بعضها
علامة (حلال) المميزة للحوم المذبوحة طبقا للشريعة الإسلامية، ويقف "أحمد
البيلي" تاجر البقالة خلف ماكينة حساب الزبائن ممسكا بهاتف محمول قديم
الطراز ليتلقى أحد طلبات التوصيل للمنازل متحدثا باللهجة المصرية.
خرج المصلون من المسجد عقب صلاة الجمعة فيحاول البيلي ومساعدوه تلبية
طلباتهم المتلاحقة مع الحرص على خصم قيمة بعض المشتريات للزبائن العرب
كمجاملة، وبعد رحيلهم لا يمانع صاحب المتجر في الحديث بعد أداء صلاة العصر.
يشعر البيلي البالغ من العمر 52 عاما بالامتنان للولايات المتحدة نظرا
للفرص التي أتاحتها له منذ قدومه إليها مهاجرا منذ 25 عاما ويشير إلى جواز
سفره الأمريكي بفخر قائلا "هذا بلد جميل جدا وأهله طيبون".
كافح البقال المصري لسنوات طويلة وعمل في مهن مختلفة حتى نجح في شراء
بقالته الخاصة، ولا يخفي فخره بأداء مناسك الحج منذ سنوات وكونه مواطنا
أمريكيا إلى جانب مصريته ويقول "إذا ابتعدت عن الرذائل واحترمت القانون
ودفعت الضرائب ستنجح هنا".
ويتذكر البيلي أن عرب نيويورك لم يشعروا مطلقا بالفارق بينهم والأمريكيين
كمجموعة عرقية في أي شيء حتى يوم 11 سبتمبر والذي بدل الأحوال تماما، ويقول
"يومها صرنا تحت المجهر".
ويضيف المهاجر المصري وملامح الأسف تبدو على وجهه متذكرا هجمات 11 سبتمبر
"كنت أملك متجرا صغيرا في مانهاتن ويومها شعرت بالإحراج والخجل والخوف".
وبعد الحادث نفى تعرضه لمشكلات عنصرية بل وأكد أنه حظى بالمساندة من جانب
ملاك المتاجر المحيطة به من المسيحيين واليهود، لكنه توقف عن مشاهدة
المحطات التلفزيونية العربية داخل المتجر حرصا على مشاعر الزبائن الذين
تعرضوا للصدمة، وبعد الهجمات بفترة قصيرة قرر البيلي نقل متجره إلى منطقة
أستوريا ليكون محاطا بالعرب.
ويؤكد البقال المصري أنه لم يتعرض لأي حادث عنصري بسبب دينه لكنه يتذكر
واقعة قيام أحد الأشخاص بالتبول على الحائط الخارجي لمسجد الإيمان منذ أشهر
قليلة بواسطة شخص مخمور ألقت الشرطة القبض عليه.
ويرى البيلي أن المسلمين لا يحتاجون لبناء مسجد أو المركز الإسلامي القريب
من منطقة "جراوند زيرو" التي وقعت فيها الهجمات وأن المعارضة مفهومة من
جانب بعض سكان المدينة الذين مازالوا متأثرين بما حدث عام 2001.
التجاهل الإعلامي للتسامح
وتتفق وجهة نظر البيلي مع أفكار الكثيرين من عرب نيويورك خصوصا ممن ينتمون
إلى الجيل الأول للمهاجرين الذين يميلون إلى العزلة وعدم الانشغال سوى
بأعمالهم الخاصة، وهو ما يختلف عن أراء الجيل الجديد من شباب المهاجرين أو
الجيل الثاني.
ويختلف محمد الطبراني المهاجر المغربي البالغ من العمر 33 عاما مع البيلي
حول ما يتعرض له المسلمون من مضايقات في الولايات المتحدة خصوصا من وسائل
الإعلام.
ويلخص الطبراني الذي يعمل منسقا لبرامج التبادل الطلابي في جامعة "كوينز
كوليدج" في نيويورك المشكلة قائلا "غالبية الأمريكيين طيبين للغاية ولكني
أشعر بالضيق عندما أشاهد شبكة (فوكس) الإخبارية".
ويوضح المهاجر المغربي أنه في عقب أي تهديد إرهابي للولايات المتحدة يحرص
إمام المسجد الذي يصلي فيه على الحديث مع المصلين عن نبذ الإسلام للعنف
ورفضه القاطع للإرهاب، كما تصدر المنظمات الإسلامية في أمريكا بيانات تدين
الإرهاب، لكن في الوقت ذاته لا يحظى ذلك التيار بالاهتمام المستحق من جانب
وسائل الإعلام الأمريكية.
ومنذ وصوله إلى الولايات المتحدة عام 2003 يضطر الطبراني لتعويض غياب
التغطية الإعلامية الصادقة عن المسلمين في نيويورك بشرح مباديء الإسلام
لأصدقائه ومعارفه من غير المسلمين والذين يبادرونه دوما بالأسئلة عن
العروبة والإسلام".
ولا يشعر الطبراني بالغربة في نيويورك لكونه محاطا بعدد من الأصدقاء
المغاربة بالإضافة لوجود عدد غير قليل من المطاعم المغربية في الحي الذي
يسكن به، كما يستمتع بالحرية الدينية المتاحة لكافة الأمريكيين ويقول "من
حق أتباع كل ديانة أن يمارسون عباداتهم بحرية، وأنا أحب هذا النظام لأنه
يمنحني حرية العبادة كمسلم مثل الجميع".
ولا يؤرق المهاجر المغربي إلا التهديدات الإرهابية التي تتعرض لها المدينة
من الحين إلى الآخر ويتم تضخيمها في الإعلام لأن ذلك يعني تعرضه لأسئلة من
زملائه وتشويه صورة الدين الإسلامي، ويتذكر إحباط محاولة تفجير قنبلة
العام الماضي في نيويورك ويقول "عندما شاهدت الأخبار في التلفزيون كان أول
ما تبادر إلى ذهني هو جملة (لا لسنا مستعدين لتحمل ذلك مرة أخرى)".
ويؤيد الطبراني فكرة بناء المزيد من المساجد في نيويورك وذلك لتزايد أعداد
المسلمين الذين جاءوا إلى نيويورك عقب هجمات 11 سبتمبر ليعيشوا في سلام،
ويرى أن التهديدات الإرهابية وبعض شبكات التلفزيون الأمريكية تجهض ذلك كل
من ناحيته.
وتعلو وجه الإداري المغربي الابتسامة متذكرا موقف تعرضت له صديقة فلسطينية
تعمل كممرضة عندما خافت منها إحدى المريضات لكونها تنتمي للعالم العربي،
وعندما صارحت المريضة طبيبها المعالج بخوفها اكتشفت أن الطبيب من أصل
فلسطيني أيضا وهو ما يظهر تخوف البعض من العرب.
وتختفي الابتسامة من وجه الطبراني ليختتم حديثه قائلا "من يعرفون المسلمين
بصفة شخصية يعرفون جيدا أنهم غير مؤذيين لكن الآخرين ربما لن يغيروا
فكرتهم عن الإسلام أبدا".