قد تحدث كثير من المؤرخين والعلماء وطلبة العلم والمثقفين في عصرنا
الحاضر عن ضرورة غربلة الأخبار التاريخية، ووضع ضوابط لقبول الخبر. وذهب
بعضهم بعيدًا إلى الحد الذي جعله ينادي بوجوب معاملة هذه الأخبار كما
تعامل الأحاديث والآثار من حيث القبول والرد، وألف بعضهم كتبًا في السيرة
النبوية الشريفة لا تحوي إلا صحاح الأخبار بمقاييس المحدِّثين التي وضعوها
لقبول الأحاديث والآثار، ولقد أدى صنيعهم هذا إلى اختفاء كمٍّ كبير من
أخبار النبي الأعظموأصحابه y، وصارت السيرة الشريفة كأنها مبتورة في بعض
مواضعها من حيث التفصيل ودقائق الأخبار، فما هي الطريقة المرضيَّة التي
أراها في هذا الباب المهم؟
أبدأ فأقول: إن السلف y؛ أئمتهم
وعلماءهم ومشايخهم وفضلاءهم قد قبلوا كتب السيرة والتواريخ التي وضعها
الثقات في زمانهم وتداولوها وارتضوها، ولم أسمع أن واحدًا منهم طعن فيها.
فها هي سيرة ابن إسحاق على سبيل المثال -وتهذيبها على يد ابن هشام متداول
بيننا اليوم مشهور- مليئة بالأخبار عن النبيوصحابته y، وفيها عدد ليس
بالقليل مما يعدُّه علماء الحديث بمقاييسهم ضعيفًا، لكن السلف تلقوها
بالقبول وارتضوها، فما لنا اليوم لا نقبل ما قبله سلفنا y!!
ولو
تجاوزنا زمان السيرة إلى زمان الصحابة والتابعين وتابعيهم والقرون الثلاثة
المفضلة وما بعدها، وأردنا أن نقيس أخبار أولئك بمقاييس المحدثين الدقيقة،
لضاع أكثر من شطر تلك الأخبار، ولخسرنا كثيرًا من قصص العظماء في
بطولاتهم، وزهدهم وجهادهم، وتضحيتهم، وهمتهم العالية ودأبهم، فالذي أراه
باختصار هو التالي:
أولًا: النظر في حال مصنفي الكتب
التاريخية، فإن كانوا من ثقات أهل السنة قبلنا ما في هذه الكتب قبولًا
أوليًّا لا يمنع من النظر فيها بعد ذلك بما سأذكره، وأعني بثقات المؤرخين
من كان مثل ابن سعد في طبقاته، والذهبي الإمام في سيره، وابن كثير في
بدايته ونهايته، وهكذا.
ثانيًا: بعد القبول الأولي يُنظر في
حال هذه الأخبار، فإن كانت أخبارًا للسلف والخلف تتناول زهدهم، وشجاعتهم،
وكرمهم، وجهادهم، وتضحيتهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وحسن خلقهم،
وجمال طبائعهم، ولطافة سجاياهم ولم تكن هذه الأخبار خارجة عن الأصول
العامة للشريعة، ولا هي مما تأباه الفطرة السوية، فما المانع من قبولها حتى
لو وردت بسند ضعيف أو أنها لم ترد بسندٍ أصلًا؟! وما هو الأمر المحذور
الذي يُخشى من وقوعه إذا قبلنا مثل هذه الأخبار؟!
وإن كانت تلك
الأخبار تتناول الفتن التي جرت بين الصحابة y، أو فيها شيء من المخالف
لأصول الشريعة الشريفة، أو أنها مما تمجُّها وتأباها الفطرة السوية فإنها
تُطوى ولا تروى، ولا تحاكم إلى شيء. وليس بنا -ولله الحمد- ضرورة تدعو إلى
قبول مثل هذا، ولقد أطبق السلف الصالح ومن تبعهم من الخلف على السكوت عمَّا
شجر بين الصحابة من الفتن، بل جعلها بعضهم من علامات العقيدة الصحيحة،
والإيمان العميق، وهذا أمر حسن مقبول، ونِعْمَ ما صنعوا عليهم رحمة الله
ورضوانه.
ثالثًا: بقي علينا ما ألفه الضعفاء والمتهمون من
أمثال اليعقوبي والمسعودي، وما جاء في تاريخ الطبري من الطوام، فهذا لا بد
من النظر فيه نظرًا دقيقًا، واتهام ما جاء فيه ومحاكمته محاكمة عادلة؛ وذلك
لأن الأوَّلَيْنِ مالا نحو التشيُّع والرفض، والطبري مال إلى التساهل في
قبول الأخبار التي لا تقبل بدعوى أنه أوردها بالسند، فيا ليته لم يصنع هذا
ولم يرتضه.
والذي أراه -والله أعلم- أن يكتفى بما ورد في كتب
ثقات المؤرخين، ففيها الغنية عن مثل هذا، فإن وجد أن هناك بعض الأخبار
المهمة في كتب نحو المسعودي واليعقوبي وما جاء في تاريخ الطبري، وأن هذه
الأخبار تفيد المسلمين في دينهم ودنياهم، عوملت على حسب ما جاء في الفقرة
الثانية من التفريق بين أخبار الزهد ومثيلاتها فتُقبل، وبين الأخبار التي
تتعلق بالأحكام أو الفتن فتمحَّص على حسب القواعد الحديثية في قبول
الأخبار.
أما كتب المؤرخين المتأخرين مثل السخاوي وابن إياس،
والعماد الحنبلي، ونجم الدين الغزي، والمحبي، والمرادي، ففيها ما هو مقبول
وما هو مردود بالنسبة لأخبار أعصارهم وأمصارهم، وتفتقر إلى تحقيق وتمحيص،
ونظر مدقق.
وختامًا أقول: إن تاريخنا ثري غني، ليس لأمة من
الأمم عشر معشار ما لدينا من أخبار الأسلاف والأجداد العظام، وكثير منها
متصل صحيح؛ فتاريخ مثل هذا هو فخر لنا وعزة فينبغي المحافظة عليه،
والاهتمام به الاهتمام اللائق، وعدم تضييعه بالتدقيق الزائد والمحاكمة
الظالمة التي تجتاح كثيرًا من التفاصيل المهمة والدقائق العظيمة تحت عنوان
براق جذاب مثل (إعادة كتابة التاريخ)، أو تمحيص الأخبار، أو غربلة
التواريخ، أو غير ذلك مما هو حق ومطلوب، لكن السبيل إليه مما تختلف فيها
الأنظار، وتتفاوت فيه مسالك الفهوم. وحسبي أني أوضحت الذي أراه حقًّا في
المسألة، وأترك الحبل رخيًّا لمن أراد التعقيب والمناقشة، والله تعالى
الموفق.
الكاتب: د. محمد موسى الشريف
المصدر:
موقع التاريخ