أيهما خلق أولا السماء أم الأرض؟
دل القرآن العظيم في موضعين منه
على أن الأرض مخلوقة قبل السماء ، وذلك في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي
خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )
البقرة/29 ، وقوله تعالى : ( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي
خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ
رَبُّ الْعَالَمِينَ . وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ
فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً
لِلسَّائِلِينَ . ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ
لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا
طَائِعِينَ ) فصلت/9-11 .
وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى في سورة
النازعات : ( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا .
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا . وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا .
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا . أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا
وَمَرْعَاهَا ) النازعات/27- 31
فالأرض خلقت أولا ، غير مدحُوّة ، ثم
خلقت السماء ، ثم دُحيت الأرض ، وذلك بإخراج الماء منها والمرعى ، أي
الأشجار والزراعات ونحوها .
ومعنى قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ) أي : أصل الأرض ، مع تقدير ما سيكون
عليها من أرزاق وغير ذلك . فـ (خَلَقَ) هنا بمعنى : قدّر ، وهذا موافق
لقوله في سورة فصلت : ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) .
قال العلامة
محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله : " اعلم أولا أن ابن عباس رضي الله عنهما
سئل عن الجمع بين آية السجدة [أي آية سورة فصلت] وآية النازعات ، فأجاب بأن
الله تعالى خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحُوَّة ، ثم استوى إلى السماء
فسواهن سبعا في يومين ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وجعل فيها الرواسي
والأنهار وغير ذلك .
فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك ، بعد خلق السماء .
ويدل
لهذا أنه قال : ( والأرض بعد ذلك دحاها ) ولم يقل : خلقها ، ثم فسر دحوه
إياها بقوله : ( أخرج منها ماءها ومرعاها ) وهذا الجمع الذي جمع به ابن
عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه . مفهوم من ظاهر القرآن العظيم "
انتهى .
ثم ذكر آية سورة البقرة ، وبين أن المراد بالخلق فيها : التقدير ، أو خلق أصل الأرض .
وذكر
وجها آخر للجمع ، وهو أن قوله : ( والأرض بعد ذلك دحاها ) أي مع ذلك ،
فلفظة ( بعد ) بمعنى ( مع ) ، مثل قوله تعالى : ( عتل بعد ذلك زنيم ) .
وهذا الجمع يُستأنس له بالقراءة الشاذة ، وبها قرأ مجاهد ( والأرض مع ذلك
دحاها ) . فتكون آية النازعات لا ذكر فيها للترتيب بين خلق السموات والأرض ،
وحينئذ فلا تعارض بينها وبين آية البقرة وفصلت .
ينظر : "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" للعلامة محمد الأمين الشنقيطي ، مطبوع مع تفسيره "أضواء البيان" (10/16- 18) .
والله أعلم .