مذكرة حول الإصلاحات في الـجزائر
(سي آيلند ( الولايات الـمتـحدة
الأمريكية )، 09 يونيو 2004)
توطئــــة.
لقد تعددت الـمبادرات، الداخلية و الـخارجية، التي تتناول
إشكالية الإصلاحات في العالـم العربي. و من الثابت أن النجاح لا يـمكن أن يـحالف
الإصلاحات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية ما لـم يضف البلد الـمعني بها الطابع
الوطني عليها و ما لـم تـتـم في محيط جهوي و دولي موات.
من منطلق هذه الروح، لا يـمكن لأي كان أن يتغاضى عن أن الوضع
السائد في الشرق الأوسط و العراق يشكل سببا خطيرا لانعدام الاستقرار. إن آفاق الأمن
والديـمقراطية و التنـمية في هذه الـمنطقة مرهونة باستعادة السلـم التي تـمر حتـما
عبر إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشريف و الـجلاء عن الأراضي اللبنانية و
السورية الـمحتلة من قبل إسرائيل و مـمارسة الشعب العراقي لكل سيادته مـمارسة
فعلية.
ستسهم الـمجموعة الدولية، بـمضاعفة الـجهد من أجل تسوية هذه
النزاعات في أقرب الآجال تسوية عادلة ونهائية، في الآن نفسه، في إيجاد الظروف
الـمواتية لديناميكية إفاضة الديـمقراطية و التقدم الاقتصادي و الاجتـماعي في
الـمنطقة كافة.
و الـجزائر، التي يرتبط مصيرها ارتباطا وثيقا بـمصير العالـم
العربي، تـحرص على التذكير بهذه الـمعايير الرئيسية التي تتوقف على مراعاتها
مصداقية كل مبادرة للشراكة السياسية و الاقتصادية تـجاه العالـم العربي وقابليتها
للتـحقيق.
جزائر الإصلاحات: النضج و اللارجعة.
إن الـجزائر
تعيد بناء نفسها على أسس جديدة منذ ما يناهز الـخمسة عشرة عاما. و لقد قطعت أشواط
هامة في إقامة و بسط نظام سياسي ديـمقراطي و نظام اقتصاد السوق. و الـمسار هذا قد
تـم خوضه على أساس العبر والدروس الـمستقاة من التـجربة السابقة لبناء البلاد،
التـجربة التي أملتها الظروف التاريخية العسيرة التي اكتنفت استعادة استقلالها.
إن التوجه
نـحو إحداث تـحولات سياسية و اقتصادية واجتـماعية لـم يتزعزع بفعل العشرية المشئومة
التي تكبدها الشعب الـجزائري. فلـم تنل لا الـموجة الإرهابية، و لا عدم تفهم بعض
شركائنا، و لا عدم اكتراث البعض الآخر، من إصرار الـجزائر على الـمضي قدما.
لـم تستطع
الـجزائر أن تبقي و تعزز الطابع الديـمقراطي و الـجمهوري للدولة القائم على تكريس
الـحريات الأساسية و حقوق الإنسان فحسب، بل استطاعت كذلك أن تضمن لا رجعة تـحولات
نـمط تنظيـم وسير الاقتصاد فيها.
وهكذا تأكد
مبدإ الـحرية، بحيث بات اليوم الركن الركين للـحياة السياسية و الاقتصادية.
على الصعيد
السياسي.
لقد ساهمت
سياسية الوئام الـمدني في استعادة الأمن و في العودة إلى قيـم التسامح و الـحوار
العريقة لدى الشعب الـجزائري، متيحة من ثمة اطراد اتساع مجال الـحريات.
وتكريس اللغة
الأمازيغية كلغة وطنية وعزم السلطات العمومية على إبرازها و نشرها ينضويان، بالذات،
في نفس الـمسعى الرامي إلى لـم شمل الشعب الـجزائري و إتاحة تفتـح كافة الأبعاد
التي تزخر بها ثقافته و حضارته.
إن السياق
الـجديد هذا قد سهل، بـما لا يحتـمل أخذا و لا ردا، مـمارسة الشعب الـجزائري،
بسيادة، حقه في اختيار مـمثليه على كافة الـمستويات، عن طريق انتـخابات عامة حرة و
شفافة.
إن الانتخابات
التشريعية و الـمحلية لسنة 2002 والانتخابات الرئاسية التي جرت مؤخرا تبرهن على أن
الـجزائر قد دخلت نهائيا عهد الـمشروعية الديـمقراطية للسلطات العمومية.
و البرلـمان،
الـمكون من غرفتين و الـممثلة ضمنه مختلف الـحساسيات السياسية في البلاد، يـمارس
صلاحياته الدستورية بكل حرية.
و قد أدى
انعدام القيود على إنشاء و نشر الصحف وانعدام الرقابة على محتواها إلى تكاثر
النشريات و تنوع في التعبير.
يبقى الآن
للسلطات العمومية و لوسائل الإعلام العمل سويا من أجل تعزيز حرية التعبير هذه، مع
وضعها بـمنأى عن التـجاوزات التي لا تقبل في أي مكان من العالـم. وفي هذا السياق
بالذات، تعكف الـحكومة على صياغة تشريع موات يعتـمد الـمعايير الـمطبقة في تسيير
الفضاءات الإعـــلاميــة في بلــدان منظــمة التعاون و التنـمية الاقتصادية
OCDE.
إن ترقية و
حماية حقوق الإنسان يضمنهما جهاز شامل يتكون من آليات برلـمانية و قضائية و جمعوية.
فضلا عن ذلك، تضطلع الـجزائر، التي هي طرف في سائر الأدوات الدولية الـمتصلة بحقوق
الإنسان، اضطلاعا دقيقا بالواجبات الـمنـجرة عن ذلك.
لقد تـجسدت
حرية إنشاء الـجمعيات من خلال ظهور عدد كبير جدا من الـمنظمات غير الـحكومية
الناشطة في مختلف ميادين الـحياة السياسية.
وبإمكاننا
اليوم أن نقول إن الـجزائر، بقيامها بالتوفيق بين الـمبادئ الديـمقراطية العالـمية
و قيـمها الثقافية والـحضارية الـخاصة، قد صنعت نظاما سياسيا يستـجيب لـمقتضيات
الـحداثة و التـجذر ضمن الـمجتـمع الـجزائري. وهي تعتزم، من ثمة، الـمشاركة في
الانطلاقة الديـمقراطية العالـمية والـمشاركة في رد الاعتبار لقيـم كرامة و احترام
الإنسان في كل مكان من العالـم.
أخيرا، و من
خلال الترتيبات ذات الصلة لاتفاق الشراكة الذي يربطها بالإتـحاد الأوروبي، و من
خلال انضامـمـها لآلية التقصي من قبل النظراء للشراكة الـجديدة من أجل تنـمية
إفريقيا NEPAD، فإن الـجزائر قد
جعلت من احترام حقوق الإنسان و الـحريات الديـمقراطية و الـحكم الراشد، جعلت منها
عناصر أساسية لإرساء دولتها على أسس جديدة، بل و واجبات تتعهد السلطات باحترامها
ليس إزاء الشعب الـجزائري فـحسب، بل وكذلك إزاء الـمجموعة الدولية.
إلى جانب ذلك،
فإن الـجزائر، التي أخذت تتعافى من أزمتها الوطنية والتي يحدوها، أكثر من أي وقت
مضى، العزم على الـمشاركة في الكفاح العالـمي ضد آفة الإرهاب، تعكف حاليا على ازالة
مخلفات الأزمة من خلال:
- الـمعالـجة
الشفافة لـملف الـمفقودين خلال الأزمة،
- تشجيع
الـمجموعات الإرهابية الناشطة داخل البلاد على الرجوع عن غيها،
- ترقية
مصالـحة وطنية شاملة يحفظ بها الـمجتـمع الـجزائري وحدته الوطنية، في كنف اختلاف
الـمشارب السياسية، ويرافــق عصرنة البلاد، بعيدا عن كل غـلـو و تطرف.
على الصعيد
الاقتصادي.
صحــيح أن
الإصــلاحات جاءت في الـجزائر متأخرة وتـم الشروع في معظمها خلال فترة التعديل
الهيكلي الأليـمة التي رافقها تـحرير الأسعار، الذي أصبح اليوم تـحريــــرا كليـــا
أو يكاد، و إغــلاق الـمؤسسات العمومية (أكثر من 400) وتسريح لا مناص منه للعمال
(أكثر من 400.000 بين 1995 و 1997).
لكن هذه
التـجربة الصعبة لـم تنقص شيئا من إرادة الـجزائر في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية
بحذافيرها. وهو الأمر الذي تـجسد بإبرام اتفاق الشراكة مع الإتـحاد الأوروبي الذي
من الـمقرر أن يفضي إلى قيام منطقة تبادل حر، و يتواصل بالتفاوض الـحازم حول
الانضمام إلى منظمة التـجارة العالـمية الذي تنتظر الـجزائر بشأنه مساندة شركائها.
و في مرافقة
هذا الاختيار، تقوم الـجزائر، على الـمستوى الداخلي، بالتغييرات و التعديلات
اللازمة. وهكذا، فإن مراجعة القوانين، قصد تكييفها مع اقتصاد السوق، قد بلغت
مرحلتها النهائية أو تكاد.
و هكذا، تـم،
كذلك، فتـح الـمجال أمام الشراكة والاستثمار الـخاص محليا كان أم أجنبيا، و تقديـم
التشجيع لهما، وقد تـم جني بواكير ثمارهما. و على سبيل الـمثال، شهدت السنوات
الـخمس الـمنصرمة إسهاما يقدر بأكثر من 6 ملايير دولار من الاستثمار الـخاص الـمحلي
و بـما يربو عن 10 ملايير دولار كاستثمارات أجنبية مباشرة. و يـمثل القطاع الـخاص
اليوم أكثر من 50% من حجم واردات البلاد وما يقارب 2/3 النـمو خارج قطاع
الـمحروقات.
كما يخص
الإصلاح قطاع الـخدمات، سواء أتعلق الأمر بالاتصالات أم بالبنوك (على سبيل الـمثال
)، حتى وإن ظل هذا الـمسار ينتظر منا الاستكمال.
أخيرا، إن
الـجزائر، من منطلق وعيها بأن الإصلاح الاقتصادي لا بد أن يـمر حتـما بـمرحلة
انتقالية، ترافق انفتاحها بـمجهود عمومي لدعم التنـمية والنـمو، الـمجهود الـمتوخى
منه أن يفسح أكثر فأكثر مكانا للرأسمـــال الـخاص. و هكذا، فقد شهدت السنوات الـخمس
الـماضية تقديـم إسهام عمومي للاستثمار يقدر بقرابة 30 مليار دولار. و سيتواصل هذا
الـمجهود على امتداد السنوات الـخمس القادمة، الأمر الذي سيتيح سوقا مغرية
للاستثمار الـخاص، الـمحلي و الأجنبي على حد سواء.
الـمرحلة
الـجديدة:استـمرارية استراتيجية و أنـماط عمل معززة.
تبقى
الـمصالـحة الوطنية و الاستقرار و الديـمقراطية والتنـمية الاقتصادية و التلاحم
الاجتـماعي الـمكونات الأساسية لـمسعى التـجدد الوطني الواجب استكماله.
وتوخيا للبلوغ
بهذا الـمسار مداه في أفضل الظروف، رسمت الـجزائر لنفسها، في هذه الـمرحلة
الـجديدة، ستة أهداف ذات أولوية، و هي تبذل جهودا حثيثة مكثفة لتـحقيقها.
الهدف
الأول: إصلاح العدالة لتعزيز
دولة الـحق و القانون.
إن تعزيز دولة
الـحق و القانون يفرض نفسه لتأمين حماية أفضل لـحقوق الإنسان و دعم أمن الأشخاص
والـمـمتلكات و الأنشطة الاقتصادية.
لقد تـم بعد
قطع شوط بعيد في إصلاح العدالة. وإنه يتعين إتـمامه من حيـــث أن الـمنظومة
القضائية تشكل قطب رحى دولة الـحق و القانون. و في هذا السبيل، سيشمل العمل:
- تعزيز استقلالية الـمنظومة القضائية و مصداقيتها،
- تسهيل الوصول إلى هذه الـمنظومة و تعجيل وتيرة معالـجة
الـخلافات وتنفيذ القرارات،
- إتـمام مسار التساوق التشريعي، ضمانا لـمطابقته مع إلتزامات
الـجزائر و تعهداتها الدولية،
- تعزيز تكوين القضاة و مضاعفة الإمكانيات الـمادية للشبكة
القضائية وشبكة السجون.
الهدف
الثاني: مواصلة إصلاح هياكل الدولة و مهامها.
إن الإصلاح
هذا يهدف، في حقيقة الأمر، إلى إرساء الدولة الـجزائرية على أسس جديدة حقا،
استـجابة للـمقتضيات الـجديدة الناتـجة عن التـحولات السياسية والاقتصادية و
الاجتماعية التي تشهدها الـجزائر. و قد تـم إطلاقه منذ عامين، و هو يشكل إحدى ورشات
العهدة الـخماسية الـحالية ذات الأولوية.
إن الإصلاح
هذا، الشامل الـمدى، يتوخى تزويد الإدارة بالأدوات الـمكيفة و الوسائل اللازمة كي
تساند الـمسار الديـمقراطي، و تـجذير الـحكم الراشد و عصرنة الاقتصاد و إفاضة
التقدم الاجتماعي، مساندة فعالة.
فالـمسار الذي
شرع فيه يتطلع، إذن، إلى إعادة تـحديد طبيعة علاقات الدولة بالـمجتـمع و بالدائرة
الاقتصادية وكذا إلى تعميـم الأنـماط التشاركية للتسيير على كافة الـمستويات.
إن الهدف
الأساسي إنـما هو تـحويل الـمواطن من مجرد محكوم إلى شريك كامل في تسيير الشؤون
العمومية.
إن الدولة، مع
تعزيزها لصلاحيات التـحكيـم و الضبط الـمخولة لها وتـحسين شروط مـمارسة هذه
الصلاحيات، تعتزم صب عملها أكثر فأكثر على العوامل الـمتـحكمة في النـمو الاقتصادي
و تطوير التشغيل و تـحسين ظروف معيشة الـمواطنين.
و تنوي
السلطات العمومية، بهذا الـمجهود الـمبذول في سبيل تـجديد الهياكل الـمؤسساتية و
الإدارية، تـحمل مسؤولياتها في مجال الاستشراف والتصور و العمل والتقييـم و
الـمراقبة.
يشمل إصلاح
هياكل الدولة و مهامها من بين ما يشمل، تعميق اللاتـمركز و اللامركزية من خلال
إعادة توزيع فعلي للصلاحيات و الوسائل لفائدة الـجماعات الـمحلية، من حيث هي الفضاء
الأمثل الذي يقاس فيه يوميا مدى تـمثيل الدولة و مصداقيتها، و من حيث هي، في نفس
الوقت، الدليل على ديـمقراطية محلية حقيقية.
الهدف
الثالث: تطوير الشراكة بين الدولة و القطاع الـخاص والـمجتـمع الـمدني.
لقد تبـــنت
الـجـــزائر طـرحا تنـمويا يعطي الصدارة للإنســان بصفـــــته فاعلا و مـــستفيدا،
و عكفت على ترقية أوســـع مشاركة مـمكنة، من مرحلة التصور إلى مرحلة التنفيذ.
لقد سمحت أطر
الـحوار الثنائي بين الـحكومة والـحركة النقـابية، والثلاثي، الذي يشرك كذلك أرباب
العمل، بإقامة سنة تشاور محمودة بشأن التسيير الاقتصادي والاجتـماعي للبلاد.
فهذه الأطر
تساهم في إحداث التوازن الضروري بين مقتضيات الفعالية الاقتصادية و متطلبات الإنصاف
الاجتماعي.
إن هدفنا
يتـمثل في تعزيز الـحوار هذا، من أجل التوصل إلى عقد اقتصادي و اجتماعي على الـمدى
الـمتوسط يوطد شراكة حقيقية بين الـحكومة و الـحركة النقابية والـمستـخدمين.
و الدولة
متـمسكة كذلك بتشجيع التطور النوعي للـحركة الـجمعوية، خصوصا، من خلال تشجيع
تنظيـمها على الصعيد الوطني و تعزيز قدراتها من أجل مساهمة أكبر في الـجوانب
الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية من حياة الأمة.
كما تـحرص
الدولة على تـحفيز تطوير الأطر الـملائمة للتشاور والتنسيق على الـمستوى الـمحلي.
الهدف
الرابع:إصلاح قانون الأسرة.
إن وضع
الـمرأة الـجزائرية يـميزه التساوي في الـحقوق والواجبات في الـمجالات السياسية و
الاقتصادية و التربوية والثقافية. و قد سمحت هذه الـمساواة بالتـمدرس الكثيف
للفتيات في كافة أطوار التعليـم و ولوجهن أكثر فأكثر الـحياة الـمهنية و
الـمسؤوليات السياسية و الاقتصادية والوظائف السامية في الإدارة و القضاء.
فبغض النظر عن
حق التصويت و الـمساواة في الأجر اللذين جاء بهما الاستقلال، صار العنصر النسوي
يشكل اليوم في الـجزائر، على سبيل البيان، أكثر من 50% من التعداد الـجامعي و أكثر
من 60% من التعداد الطبي وأكثر من 30% من سلك القضاة و أكثر من 55% من تعداد
الصحافيين.
إن هذا التطور
سيتـمم بعد بضعة أشهر عن طريق إدخال أحكام جديدة على قانون الأسرة تكفل استرجاع
التوازن بين الزوجين من حيث الـحقوق والواجبات لـجعلها تتـماشى و ما يقتضيه الدستور
و إلتزاماتنا الدولية و قيـمنا الـحضارية.