- إن الاهتمام العام بقضية الأسرى له علاقة بالثقافة والوعي بأبعاد هذه القضية التي تأخذ الجوانب الدينية والوطنية والإنسانية والأخلاقية ، ولا شك أن درجة الاهتمام تتصاعد وتيرتها ويتوهج العطاء في بعض المحطات ، وقد ينتابه الفتور في محطات أخرى ، ولكن المصيبة والكارثة أن يصل هذا الفتور إلى حالة من اللامبالاة تنعكس سلباً على مسيرة الحركة الفلسطينية الأسيرة فيزيد إلى معاناة الأسرى معاناة جديدة يكون وقعها أكبر على نفوس الأسرى ، ويغري مصلحة السجون الصهيونية التي لا تضيَّع أية فرصة متاحة لها للانقضاض على الحركة الأسيرة وسحب واغتصاب انجازاتها التي حققها الأسرى عبر مسيرة طويلة من التضحيات المخضبة بدماء شهداء الحركة الأسيرة والمتضامنين معهم خارج أسوار السجن وحيث من اللامعقول أن تترك أجساد الأسرى والذين قدموا زهرات شبابهم تتعفن داخل العلب الأسمنتية المغلقة خلف جدران السجن العالية والصماء والمحاطة بالأسلاك الشائكة ، هذه العلب الأسمنتية التي هي أقرب منها إلى القبور الجماعية ( الفستقية ) حيث يزج بالأسرى داخل هذه الغرف المليئة بالرطوبة والتي لا تدخل الشمس إلى غالبيتها ، كما وتفتقر للتهوية الصحية المناسبة مع تكدس الأجساد داخلها .
إن الاهتمام بقضية الأسرى والعمل لها يجب أن يكون من خلال محرك ودافع ذاتي وإيمان بأهمية وعدالة قضيتهم والشعور بالمسؤولية تجاه هذه القضية ، وأن العمل لها واجب ديني ووطني وأخلاقي وإنساني وفق أبعاد هذه القضية ، وقد جاء يوم 17-4 من كل عام يوماً وطنياً من أجل حرية الأسرى ، وقد كانت البداية عام 1974 حيث تشهد الساحة الفلسطينية في هذت اليوم انطلاق الفعاليات التضامنية المختلفة مع الأسرى في مشاهد ولوحات وطنية تؤكد على تمسك الشعب الفلسطيني بحقوقه ووقوفه مع وخلف أسراه من أجل تحطيم قيودهم وتحقيق حريتهم ، في هذا اليوم تشهد الأراضي الفلسطينية وكافة التجمعات الفلسطينية في الخارج والشتات وقفات تضامنية مع الأسرى ، تحيي صمودهم وتبعث فيهم العزيمة والإصرار والأمل والثقة بأن هناك من يقف إلى جانب قضاياهم من أجل تحقيق حقوقهم وحريتهم كما ويحيي الأسرى هذا اليوم وفي كافة قلاع الأسر على طريقتهم الخاصة ومن المهم جداً أن تتصاعد وتيرة هذه الفعاليات وأن لا يكون يوم الأسير لدى المستويات الرسمية بأنه يوم لرفع العتب وإسقاط الواجب ، كما هو الحال أيضاً لدى بعض الدكاكين التي تتاجر بمعاناة الأسرى أو عند الفصائل والشرائح المجتمعية ، فالأصل أن تكون فضية الأسرى حيَّة في نفوس الشعب من خلال تجسيد ثقافة النضال وما يترتب عليه من مواجهة المحتل والأسر .
إن مواقف الفصائل إلا من رحم ربي يغني عن الحديث حيث اهتمامها بالاصطفاف مع طرف دون أخر والأمر عندها .. عنزة ولو طارت !.
ومن يدرس التاريخ يجد عبر تاريخ الأمة الطويل ، وعبر سنوات الانتداب والاحتلال أن أعداء الشعب الفلسطيني قد بذلوا كل جهد في سبيل دفن همتنا وقتل قضيتنا ، ومن جملة ما تفتقت عنه العقلية الاستئصالية للأخر أنهم صنعوا ويتفنون في صناعة كل أشكال الموت ، ومن أقسى هذه الأشكال ما يُسمى " بالسجن " أو كما أطلق عليه الأستاذ الأسير المحرر وليد الهودلي " مدافن الأحياء " وهذه التسمية تؤكد شدة وقسوة السجن على النفس البشرية حيث تطحن رحى هذه السجون زهرات شباب وأعمار أبناء شعبنا الفلسطيني الأسرى .
إن السجن من أشد وأقسى العقوبات التي تستخدم بحق أسرى الحرية في محاولة لتفريغ المجاهدين والمناضلين من محتواهم الجهادي والنضالي وحتى تحول هذه العقوبة دون إحياء القيم والمرتكزات الوطنية التي فهمها وتعلمها ومارسها الأسير الفلسطيني في كافة مراحل جهاده ونضاله ، لذلك فهناك ألوان كثيرة من الموت داخل هذا الشكل من الموت ( السجن ) وبمذاقات ومرارات متنوعة ، لأن المحتل الغاصب لا يريد من الأسير أن يخرج من السجن وفي نيته العودة إلى مقاومة الاحتلال ولا بأي شكل من الأشكال ، فهذا الاحتلال يحاول ترسيخ صورة الموت وبشاعته في ذهن الأسير قبل أن يتحرر سواء من خلال إنفاذ مدة محكوميته أو من خلال صفقات التبادل التي نشهد ونتابع فصول تنفيذ أخرها والمتعلقة بإطلاق سراح عدد من الأسرى الفلسطينيين مقابل الإفراج عن الجندي الصهيوني الأسير لدى حماس جلعاد شاليط والذي جاءت به المقاومة الفلسطينية المجاهدة أسيراً من خلال عملية الوهم المتبدد التي عكست روحاً قتالية عالية لدى المقاومة الفلسطينية وحسن إدارة وتخطيط وتنفيذ تعبر عن جاهزية هذه المقاومة وفي مختلف الظروف وتضع قضية الأسرى على سلم أولوياتها وقضية دائمة على أجندتها .
لقد اعتقلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي وعلى مدار سنوات احتلالها لفلسطين مئات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني طالت الرجال والنساء والأطفال والشيوخ ولم تراع الحالات الإنسانية والمرضية ، من هنا وأمام هذه الغطرسة وهذا الاستهداف ومن وسط حلكة الظلام ، ولجيّة العتمة ، من بطن الحوت حيث ظلمات بعضها فوق بعض ، فقد خرجت صرخة قوية وصرخة تحدي لتحول السجون وقلاع الأسر إلى قلاع علم ونور وتربية ووعي للمفاهيم والقيم الوطنية والدينية والأخلاقية ، وقد حولت قوة هذه الصرخة الصحراء القاحلة إلى أرض خضراء يانعة وهكذا وبدل أن تكون القيود وسيلة إذلال وامتهان للكرامة فقد أنبتت ثماراً يانعة وجاءت بماءٍ صافٍ زلال يسقي العطاش ويروي الظامئين من المجاهدين والمناضلين الذي لم يفت السجن وقهره من عضدهم ، وليعكس صمودهم أصالة هذا الشعب العظيم المعطاء وشريحة الأسرى الأحرار والأطهار ، لقد جاءت المعاناة والقيود لتنبت فكراً وثقافة وعلماً ، لقد انقلب السحر على الساحر ، فاستطاع الأسرى وبعمق إيمانهم وقوة إرادتهم وعزمهم وتصميمهم يجعل هذه السجون والمقابر قلاع تحيي همة وروحاً وعزماً بل وأشكالاً متعددة و مختلفة من إحياء القلوب ، ومقوله أحمد ابن حنبل محفورة بالأذهان ، ماذا يستطيع أن يفعل بي أعدائي ، فإن سجني خلوة ، نعم تجديد وتمتين وتصليب وتعميق العلاقة مع الله سبحانه وتعالى ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، وكل أمر المسلم خير ، إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء احتسب وصبر .
لقد أراد الاحتلال للمجاهدين والمناضلين ومن خلال أسرهم ، وتغييبهم في بطن الحوت موتاً وذلاً ، أرادوا به قهراً وغصة في النفوس ، وإذ بهذا الابتلاء والامتحان والصبر والاحتساب يخرجون من قلب الموت ، ومن مدافن الأحياء إلى كل الحياة ، هكذا هي معادلة الصراع بين الحق الفلسطيني والباطل الصهيوني .
ومن خلال مسيرة الحركة الوطنية الأسيرة فقد أصبح لدى الشعب الفلسطيني وتراكمت لديه الكثير من التجارب الجهادية والنضالية جعلت منه قدوة وجعلته يتصدر مكانة متقدمة بين الشعوب والأمم بل على رأس الشعوب المقاومة من أجل الحرية والاستقلال ، وها هو المجاهد الكبير نائل البرغوثي يدخل عامه الثالث بعد الثلاثين كأقدم أسير مقاوم فلسطيني بل وفي العالم أجمع مما أدخله موسوعة جينتس للأرقام القياسية ، وبالرغم من الظروف الخاصة التي يعيشها هذا الشعب وبالرغم من التحديات الكبيرة والعقبات الكأداء التي تقف أمام مسيرة هذا الشعب الذي يقدم الغالي والنفيس لانتزاع حقوقه الطبيعية التي تمنح لكافة شعوب العالم دون منَّة أو ثمن ولا شك أن شعب بهذا الحجم من التضحيات والتنوع في المشارب الفكرية والأيديولوجية ستتعدد فيه المواقف والرؤى والطروحات بل وستتعدد المنهجيات والآليات التي توصل إلى تحقيق الأهداف التي لا يختلف عليها اثنان أو فصيلان ، حيث كل فصيل يرتأي أن نهجه في مسيرته النضالية وطريقة حمله لأعباء القضية ، ودفع استحقاقات الوصول إلى الأهداف ، هو الأجدر والأقصر لتحقيق تلك الأهداف ، وعليه وأمام هذا التنويع في ألوان الطيف السياسي الفلسطيني سواء كان في عدد الفصائل الفلسطينية المنضوية تحت مظلة منظمة الحرير الفلسطينية أو الفصائل الجهادية كحماس والجهاد الإسلامي أو من الكتل البرلمانية والأحزاب التي تشكلت منذ توقيع اتفاقية أوسلو ، لذلك أصبحت القضية الفلسطينية ساحة تنافس لكل الاتجاهات السياسية والتنظيمية فيما بينها ، تنافس في النهج والوسائل وتوحد في الأهداف ، ومن المؤسف والمؤلم أن هذا التنافس بالعطاء والتضحيات قد أخذ جانباً من المزايدات ، بل وفي بعض الحالات ونتيجة الغيرة والحقد والأنانية الشخصية والفصائلية والتنظيمية أصبح الفلسطيني يعطل على الآخر الفلسطيني في محاولة لإفشاله ليبقى متصدراً قيادة الشعب الفلسطيني كما حصل عقب انتخابات المجالس المحلية والقروية في كل مراحلها ومن ثم الانتخابات التشريعية الثانية وفوز حماس ونيلها أغلبية كبيرة من مقاعد المجلس التشريعي الأمر الذي مسَّ بنضالات وجهاد الشعب الفلسطيني ووجه ضربة وطعنة نجلاء للحركة الأسيرة الفلسطينية التي لعبت دوراً مهماً وأساساً من خلال تقديمها وثيقة الأسرى للخروج من المأزق الفلسطيني وإنهاء حالة الانقسام فكان التوقيع على وثيقة الوفاق الوطني ومن الكل الفلسطيني واليوم وفي ذكرى يوم الأسير الفلسطيني نرى أقطاب الحركة الأسيرة يستكملون مسيرة النضال والتصدي المشترك لمصلحة السجون الإسرائيلية بعد حوالي ست سنوات من التفرقة والتشرذم بعد فشل إضراب شهر آب من عام 2004 الذي شكلَّ انتكاسة لمسيرة الحركة الأسيرة وتضحياتها مما دفع مصلحة السجون النازية للانقضاض على إنجازات الأسرى والبدء بسحبها الواحدة تلو الأخرى ، وجاء الانقسام الفلسطيني ليعزز حالة التشظي وعدم الانسجام على الساحة الاعتقالية ، وقد حصل الفصل في بعض السجون نتيجة تصريحات هوجاء غير متزنة صدرت عن بعض الكادر الاعتقالي من فصيل معروف الذي هدد بالتعرض لقيادات وكادر حماس في السجون ولوزرائها ونوابها الأمر الذي قلب الأمور رأساً على عقب ، ورغم إصرار حماس على رفض الفصل إلا أن فتح في سجن النقب كانت مع الفصل تحت حجج وذرائع واهية واللقاءات والحوارات فيما بين الفصائل ومع الإدارة قد وثقها الأخوة في حماس وتم توصيلها إلى قيادة فتح ، ولا شك أن إدارة القمع الصهيوني ، والنازي قد استغلت تلك التصريحات الرعناء ووظفتها وفرضت الفصل وخاصة في سجون الجنوب واليوم وبفضل الله وبعد أكثر من سنتين ونصف يدرك الأسرى ومن مختلف الفصائل أن الوحدة والعيش المشترك والعمل المشترك من خلال برنامج نضالي متفق عليه هو الأسلوب الأمثل للرد على همجية مصلحة السجون ووقف حالة التدهور على الساحة الاعتقالية ، ويأتي يوم الأسير الفلسطيني لهذا العام وهناك بشائر خير في الأفق وقد بدأت خطواتها العملية من خلال استعادة وحدة الحركة الأسيرة ، كما وتوافق كافة الفصائل على البرنامج النضالي التي بدأت فعالياته مع اليوم الأول من نيسان كل ذلك له أثر ومساهمة إيجابية كي تستعاد الثقة بين أقطاب الحركة الأسيرة ، وأمل أن تشهد الشهور القليلة القادمة نقلات وخطوات نوعية تجاه استعادة عافية الحركة الأسيرة من خلال إعادة العيش المشترك بين كافة الفصائل وفي كافة الأقسام وفي مختلف السجون .
فكل تحية لكل مجاهد وكل مناضل وكل مناضل يدفع نحو تعزيز اللحمة وتصليب الموقف على الساحة الاعتقالية حتى يتخندق الجميع والعمل وفق خطة وبرنامج نضالي مشترك متفق ومتوافق عليه للبدء بانتزاع الحقوق التي اغتصبت وسلبت من قبل النازي الصهيوني على مدار السنوات الماضية .
وفي ذكرى يوم الأسير الفلسطيني كل عام والحركة الفلسطينية الأسيرة بألف خير ، وكل عام وأسرانا إلى الحرية أقرب