سرطان البنكرياس.. ذلك الخبيث الذي لا تكتشف أعراضه إلا متأخراً
لا يوجد في الأفق ما ينم عن اختراق كبير
* كمبردج (ولاية ماساشوستس الاميركية): «الشرق الأوسط»
* يبدو ان هناك سيلا ثابتا من الأخبار السارة حول علاج السرطان في الفترة الأخيرة ابتداء من العلاجات التي تستهدف المناطق المصابة مثل «غليفيك» Gleevec وانتهاء بالاستراتيجيات الجديدة، مثل تلك المضادة للأوعية التي تركز على الأوعية الدموية الممتدة والمنتشرة التي تقوم بتغذية الأورام. وبعض انواع السرطان على سبيل المثال كمرض «هودجيكنس» الذي هو نوع من السرطان الليمفاوي بات قابلا أكثر للعلاج، كما أن عدد الأميركيين الذين يموتون من سرطان الصدر والقولون هم في تناقص مستمر.
لكن الأخبار الجيدة حول سرطان البنكرياس يبدو انها عسيرة، والأطباء لم يعرفوا بعد كيفية اكتشافه في مرحلة مبكرة، رغم ان علاجه قد تقدم بعض الشيء، لكن لا يوجد في الأفق ما ينم عن اختراق كبير.
والآن هناك اتجاه للعودة الى لوحة الرسم الطبية للقيام بالأبحاث الطبية، والأمل معقود على فهم أكبر لمورثات المرض وآلياته التي هي على مستوى الجزيئات التي من شأنها ان تكشف كعب أخيل بغية استهدافه من قبل علاجات أكثر فعالية. كما ان اكتشافه في وقت مبكر هو هدف اخر نظرا الى صعوبة ذلك الا في حالات نادرة وبعدما يكون قد انتشر واستفحل.
في هذا الوقت فان هذا المرض، شأنه شأن الأمراض الآخرى، له جماعات دعم لمساعدة المرضى وعائلاتهم تقوم بجمع المال لأغراض الأبحاث والدراسات.
* الأعراض المبهمة للبنكرياس وظيفتان اطلاق السوائل والخمائر (أنزيمات) في الامعاء الدقيقة للمساعدة على عملية الهضم وانتاج الهرمونات (الأنسولين والغلوكاغون بشكل رئيسي) التي هي من الأساسيات في عملية استهلاك الجسم للسكر. فقط 10 في المائة من سرطانات البنكرياس تحصل في الأنسجة المنتجة للهرمونات، او أنسجة الغدة الصماء التي تعرف بجزر لنغرهنز.
ومن السرطانات ألأكثر شيوعا تلك التي تنشأ في الأنسجة التي تنتج الخمائر والسوائل الهضمية وتطلقها. ومثل هذه السرطانات في المناطق الخارجية الأفراز، كما تدعى، قد تتطور في اي جزء من أجزاء البنكرياس، رغم ان نسبة 60 في المائة منها تبدأ في رأس العضو الذي يلتقي مع الجزء الأعلى المعقوف من الأمعاء الدقيقة.
ويقوم المرض في بعض الأحيان بانتاج الاعراض التي تشكل تحذيرا مبكرا لكون وجود ورم في رأس البنكرياس بمقدوره الضغط على القناة الصفراء، مما يجعل الـ«بليروبين» من الكبد والمرارة يتراجع عن تغذية مجرى الدم. وتكون النتيجة اصفرار الجلد والعينين وشحوبهما، اي الأصابة باليرقان الذي يشكل العامل الأكبر في عمليات التشخيص التي تؤدي فورا الى اجراء العمليات الجراحية.
ولكن في العديد من الحالات في المراحل المبكرة، لا يسبب السرطان أي اعراض، وتلك التي يسببها كالازعاج البسيط في المعدة، وفقدان الوزن، وعدم الشعور بالجوع، يمكن الخلط بينها وبين سوء الهضم وبعض المشاكل الأخرى البسيطة في المعدة والأمعاء.
ويشكل التدخين واحدا من عوامل الخطورة الكبيرة. والمدخنون معرضون مرتين الى ثلاث مرات للأصابة بسرطان البنكرياس من غير المدخنين. وقد اظهرت بعض الدراسات خطر الوجبات الغذائية الغنية بالدهونات العالية ايضا.
ومن الواضح ان سرطان البنكرياس مرتبط بشكل من اشكال التهاب المعثكلة (بنكرياتيسيس) المزمن الذي له اسبابه العديدة بما في ذلك الأسراف في تناول المسكرات، وان كان لا يوجد دليل قاطع على العلاقة بين تناول المشروبات الروحية وسرطان البنكرياس بالذات. اما الحالات المعزولة من التهاب المعثكلة الحاد التي قد تسببها حصوات المرارة فلا يبدو انها تزيد من مخاطر المرض.
وعلى صعيد معدلات المرض في الحالات الجديدة من السرطان التي تشخص سنويا، فان سرطان البنكرياس هي حالة بين كل 11 حالة. من هنا فهو لا يعتبر من اكثر السرطانات شيوعا، لكنه يعتبر من أكثرها خطرورة، ويأتي في المرتبة الرابعة في عدد الوفيات التي يسببها. ومتوسط فترة البقاء على الحياة بعد الأصابة هو ستة اشهر، بحيث ان اقل من واحد الى خمسة من المواطنين الأميركيين الذين شخصوا به يمكنهم العيش اكثر من سنة واحدة. ولعل النقطة الوحيدة البراقة هنا هو ان معدلاته باتت مستقرة بالرغم من الاتجاهات والتحركات الديموغرافية التي من شأنها ان ترفع معدلاته.
وكالعديد من السرطانات فان سرطان البنكرياس هو مرض الشخص المتقدم في السن لكون ان 80 في المائة من الذين شخصوا به كانت اعمارهم تفوق الـ 60 سنة نظرا الى زيادة طول معدلات عمر الإنسان وازدياد عدد المسنين من الأميركيين.
ومع ذلك فانه خلال العقود القليلة الماضية ظل معدل المرض مستقرا: 11 الى 12 حالة جديدة تشخص سنويا بين كل 100 أميركي (اي 33.730 حالة جديدة في العام الماضي استنادا الى تقديرات جمعية السرطان الأميركية)، ويبدو ان تناقص عدد المدخنين قد عادل عدد المسنين.
* مطلوب اختبار طبي يمكن علاج سرطان البنكرياس جراحيا عن طريق ازالة الورم، هذا اذا لم يكن السرطان قد انتشر الى الأوعية الدموية والعقد الليمفاوية البعيدة والأعضاء الأخرى، وهذا امر لا يحدث كثيرا في ضوء اكتشاف المرض متأخرا دائما. والمعلوم ان أقل من 20 في المائة من الاورام البنكرياسية يمكن ازالتها جراحيا.
والتغيير الرئيسي في علاج المرض هذا، هو انزال عقار العلاج الكيماوي «جيمسايتبين» gemcitabine (جيمزار Gemzar) الذي يستخدم بعد اجراء العمليات. وهو من صنف العقاقير المعروفة بأنها مضادة للمستقلب التي تعمل عن طريق التدخل في نمو الخلايا السرطانية. وهو يستخدم عقب العمليات الجراحية لمنع السرطان من العودة.
لكن نتائج الأبحاث التي قامت بها مجموعة المانية في يناير(كانون الثاني) 2007 والتي نشرت في مجلة الجمعية الطبية الأميركية عززت من الحجج القائلة ان من المفضل استخدام «جيمسايتبين» في العلاج بعد اجراء عمليات التدخل الجراحي الذي ينطوي ايضا على استخدام الأشعة ودواء قديم 5 ـ fluorouracil (5 ـ FU) . واستخدام «جيمسايتبين» بعد الجلسات الشعاعية و5 ـ FU قد يفيد بعض المرضى، لكن الخبراء يناقشون منذ سنوات الإزعاج الناجم عن العلاج هذا الذي يتبع العملية الجراحية، وسيظلون كما يبدو يناقشون ذلك. ومن المؤسف انه في نهاية المطاف، بغض النظر عن العلاج وانواعه، فان نحو 75 في المائة من المرضى الذين خضعوا الى العمليات الجراحية سيموتون من جراء عودة المرض خلال أربع الى خمس سنوات.
واعطاء عقاقير عدة في دفعة او دفعتين قد اعطت مفعولها في بعض انواع السرطانات، لكن الباحثين جربوا هذا المسعى مع سرطان البنكرياس بحيث ان عشرات الدراسات قد أرفقت «جيمسايتبين» مع سائر العقاقير الأخرى، بما في ذلك الجديدة منها، مثل bevacizumab) Avastin) و erlotinib (Tarceva) وكانت النتائج مخيبة للآمال. وأحد اسباب صعوبة علاج سرطان البنكرياس هو انه غير مغلف بغشاء، كما هو الحال مع الأعضاء الأخرى. ومثل هذا «العري» يجعل من انتشار المرض موضعيا اكثر احتمالا. كذلك تكمن الأورام السرطانية كشرانق داخل انسجة كالجروح الغائرة التي من شأنها ان تنتج بيئة ضعيفة الأوكسجين، التي تجعل من العلاج الشعاعي والكيماوي أقل فعالية. وأخيرا فان جينات الخلايا السرطانية لها تحولات وتمسخات متعددة، وهذا هو السبب الذي يجعل من العلاج الكيماوي امرا غير نافع.
وعندما يتعقد امر علاج سرطان البنكرياس جراحيا يحاول الأطباء جهدهم تحسين الأعراض ومساعدة المرضى لكي يعيشوا فترة اطول. واذا كان الورم يقوم على سبيل المثال باغلاق القناة الصفراوية، او منفذ العصارات الهضمية والمعدية، يمكن للاطباء فتح ذلك بواسطة حصيرة معدنية، او عملية مجازة. ويمكن السيطرة على الآلام بعدد من الأساليب مثل عقاقير Opioids (مثل المورفين والفينتانيل والأوكسيكودون) التي هي فعالة جدا. ولاقى الأطباء نجاحا في ذلك عن طريق حقن الكحول هذه في الأعصاب، أو حولها القريبة من البنكرياس.
وقد يكون العلاج الكيماوي والإشعاعي جزءا من العناية الملطفة للمرض لتسكين الآلام والأعراض الآخرى عن طريق تقليص حجم الورم، وعقار «جيمسايتبين» نافع بهذا الخصوص.
وأظهرت الدراسات الجينية ان سرطان البنكرياس يكمن عادة في العائلات، وافضل مثال على ذلك عائلة الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر الذي توفي والده وشقيقه وشقيقته بالمرض المذكور. واكتشف الباحثون ايضا ان سرطان البنكرياس هو اكثر شيوعا في العائلات التي لها متلازمات سرطانية نادرة موروثة التي كانت حتى وقت قريب لا تقرن مع المرض. وكان الباحثون قد اكتشفوا ان التحولات في الجين BRCA2 الذي تعرفوا اليها في البداية على انها جينات سرطانية خاصة بالصدر والمبيض، قد تكون أيضا سببا في الأصابة بسرطان البنكرياس. وتقوم غلوريا بيتيرسون الباحثة في مايو كلينك حاليا بتنظيم سجل واسع على نطاق الولايات المتحدة كلها املا في التعرف على المزيد من الجينات المقرونة بالمرض.
وفي ديسمبر من العام الماضي استطاع ميدان الابحاث الخاصة بمورثات سرطان البنكرياس الحصول على اخبار مثيرة جدا عندما تمكن بحث نشر في مجلة PLoS على الإنترنت من التعرف لأول مرة على جين «بالاديو» المتحول المسبب لسرطان البنكرياس. ويقوم هذا الجين بانتاج بروتين يشيد جدران الخلايا (والاسم اشارة الى المهندس المعماري في عصر النهضة اندريا بلاديو). ويجري انتاج هذا البروتين عن طريق نسخة متحولة ممسوخة بحيث تجعل هذه الخلايا تتحرك اسرع من الخلايا العادية، مما يفسر سبب انتشار سرطان البنكرياس بشكل سريع جدا الى أجزاء الجسم الأخرى.
ومن الاعتلالات الجنية الأخرى غير الطبيعية التي تصاحب سرطان البنكرياس هو التحولات في جين K ـ ras (الموجود في 90 في المائة من سرطانات البنكرياس)، وجين «بي 53» الذي يكبت ويخمد الخلايا السرطانية (الموجود في 50 الى 70 في المئة من سرطانات البنكرياس).
وفي ما يتعلق بالاكتشاف المبكر للمرض هناك قطاع من الأبحاث المثيرة التي تنطوي على البحث عن المواد التي قد تساعد في تشخيص المرض في مرحلة مبكرة، ومنها جين «بلاديو» المتحول الذي قد يشكل مؤشرا حيويا له.
وهنا تكمن اهمية الأهتمام ببعض البروتينات المنظمة للنمو التي تعرف ب TGF ـ beta التي يظهر انها تلعب دورا في الاليات الخاصة بالمرض، وقد تستخدم في عمليات التشخيص المبكرة. وحتى اليوم لا توجد اي من تقنيات التصوير، سواء المقطعي منها، او تلك التي تعمل بالرنين المغناطيسي، أو بالموجات الصوتية التي يمكنها الكشف عن المرض، لكن هناك دراسات جارية تتعلق بالأشخاص من ذوي الخطورة العالية التي قد تجعل من مجموعة من الاختبارات عاملا مفيدا في اكتشاف النمو غير الطبيعي في الجسم. وسرطان البنكرياس لا يبدو انه يبدأ فجأة، فهو غير سريع، كما يقول الدكتور روبرت ماير الخبير بهذا المرض في جامعة هارفرد، «لكن من الصعب التعرف عليه». ويعتقد الباحثون ان هناك مرحلة طويلة من المرض عندما تتوضع آفة المرض وأذاه. وقد يمكن لهذه الآفة ان تطلق بروتينات في الدم التي قد تفيد في الكشف عليه مبكرا. اما الأختبارات على الحيوانات فقد تعثرت بسبب النقص الحاصل في النماذج الحيوانية التي يمكنها محاكاة المرض لدى الانسان. لكن مثل هذه الاختبارات مفيدة في كونها تتيح للباحثين النظر الى الاشارات الجديدة، وبالتالي تجربة علاجات لم تجرب بعد، من دون وضع حياة الانسان على المحك. وقد جرى تنسيل حيوانات مختلفة لأنتاج جينات غير طبيعية شبيهة بتلك المسببة للمرض في الأنسان، واستطاع الباحثون في مراكز عديدة، بينها مركز دانا ـ فاربر/ هارفرد للسرطان، تطوير فأر كنموذج. كذلك يعمل مركز جونز هوبكنز على نوذج اخر من سمك الزرد (سمك صغير مخطط). * خدمة هارفارد الطبية ـ الحقوق: 2005 بريزيدانت آند فيلوز ـ كلية هارفارد