دور الناصية في تحديد سلوك الإنسان.
(الناصية) واحدة النواصي وهي الجبهة أو مقدم الرأس, أو هي المسافة من فوق العينين إلي منبت الشعر في مقدم الرأس, وسمي الشعر الذي ينبت من ذلك الموضع ناصية علي سبيل المجاز ويقال: انتصي الشعر أي طال حتي نزل علي الناصية.
ويقال( نصاه) أي قبض علي ناصيته, وفعله( نصا)( ينصو)( نصوا) من باب( عدا)( يعدو)( عدوا). وعلي ذلك يقال:( نصوت) فلانا و(انتصيته) و(ناصيته) أي أخذت بناصيته. وفي قوله ـ تعالي ـ:
إني توكلت علي الله ربي وربكم مامن دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي علي صراط مستقيم....[ هود:56].
والأخذ بالناصية هنا كناية أو مجازا عن قمة التمكن والتحكم والقهر والغلبة فلا تخرج عن الأمر, وإن لم يكن هناك أخذ فعلي بالناصية.
وفي قوله ـ تعالي ـ: يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام[ الرحمن:41] أي فتأخذ الملائكة بنواصيهم, مجموعة إلي أقدامهم فتقذف بهم إلي النار. والعرب إذا أرادوا وصف إنسان بالذلة والخضوع والهوان لغيره قالوا: ماناصية فلان إلا بيد فلان, أي أنه في قبضته يصرفه كيف يشاء.
وجاء في سورة العلق قول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ: كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية* ناصية كاذبة خاطئة[ العلق:16,15] و(السفع) هو الأخذ بشدة, وهو أيضا السواد الذي يعلو الوجه من شدة الغضب, وباعتبار السواد: قيل للصقر( أسفع) لما به من لمع السواد وقيل لأنثاه( سعفاء).
وجاء في أقوال رسول الله( صلي الله عليه وسلم) مارواه كل من الإمام أحمد, والطبراني, والحاكم ومانصه: ما أصاب أحدا قط هم ولاحزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماض في حكمك, عدل في قضاؤك. أسألك بكل اسم هو لك, سميت به نفسك, أو علمته أحدا من خلقك, أو أنزلته في كتابك, أو استأثرت به في علم الغيب عندك, أن تجعل القرآن ربيع قلبي, ونور بصري, وجلاء حزني, وذهاب همي, إلا أذهب الله همه وحزنه, وأبدله مكانه فرجا.
وروي عن أم المؤمنين السيدة عائشة( رضي الله عنها) قولها: مالكم تنصون ميتكم؟ أي تمدون ناصيته.
ويقال: فلان( ناصية) قومه و(نصيتهم) أي رأسهم وعينهم وخيارهم و(النصي) أفضل المراعي.
من الدلالات العلمية للآية الكريمة
في وصف ناصية كافر مثل أبي جهل بأنها(.. كاذبة خاطئة) تشير الآية السادسة عشرة من سورة العلق إلي حقيقة علمية لم تبدأ في الانكشاف للانسان إلا من بدايات النصف الثاني للقرن التاسع عشر, ولم يتم تبلورها إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين.
وهذه الحقيقة تتلخص في أن ناصية الإنسان هي مركز التحكم في اتخاذه للقرار, وفي تصرفاته, وحكمه علي الأشياء, ولذلك قال ربنا ـ تبارك وتعالي ـ في حق الطاغية الكافر أبي جهل: كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية* ناصية كاذبة خاطئة[ العلق:16,15].
وقد كانت سورة العلق من أوائل مانزل من القرآن الكريم, وذلك من قبل ألف وأربعمائة سنة, في زمن لم يكن لأحد من الخلق إدراك لدور الناصية في حياة الإنسان, ذلك الدور المهم الذي لم يلاحظ إلا في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي حين تعرض أحد العمال الأمريكيين( في صيف سنة1848 م), لحادث أصاب ناصيته هذا الشاب الأمريكي كان يحمل أسم فينياس ب.جيدجPhineasP.Gage وكان يعمل في شق طريق لخط من خطوط السكك الحديدية في الجزء الشمالي الشرقي من الولايات المتحدة الأمريكية, وفي أثناء تفجير إحدي الوحدات الصخرية تطاير قضيب حديدي يزن نحو13 رطلا ليضربه في جبينه فأزال جزءا من جمجمته وجزءا من مقدمة مخه تحت الجبهة تماما, ولقد نجا هذا لشاب من الموت, ولكنه اصيب بتغير تام في شخصيته, وتحول إلي انسان آخر غير الذي كان قبل الحادث الذي تعرض له, وإن بقي قادرا علي الكلام, والسمع والبصر, والشم والتذوق, واللمس والتحكم في حركة اعضاء بدنه بطريقة طبيعية. و كان من أوضح ملامح التغيير التي طرأت عليه: العدوانية الشديدة, الكذب, عدم الشعور بالمسئولية, عدم القدرة علي التعبير, سرعة الغضب, فقد القدرة علي الإرادة والتحكم في النفس, وعلي التخطيط, وعلي الثبات العاطفي, وعلي تغيير السلوك, وعلي اتخاذ القرار المناسب, وعلي التفاعل السليم مع الآخرين, وعلي مواجهة المشاكل التي كانت تقابله, وهو ابن الخامسة والعشرين.
وهذه الحادثة ـ علي مأساويتها ـ كانت فتحا لأطباء المخ والأعصاب, فقد تعلموا منها أن لكل جزء من المخ وظائفه الخاصة به, ومن أجل تحقيق ذلك بدأوا باستثارة اجزاء من المخ كهربيا في سلاسل من التجارب المكررة, كما بدأوا بتدمير أجزاء مختلفة من المخ في حيوانات التجارب, وذلك في سلاسل من التجارب المعادة من اجل التوصل إلي معرفة وظائف الأجزاء المختلفة من المخ
:Dr.RenatoM.E.Sabbatini:
BrainandMindMagazine,V0l1.,Pt1,.1997
وبعد مجاهدات استغرقت آلافا من العلماد ومئات من السنين, ومن التجارب المعملية والملاحظات السريرية توصل علماء المخ والأعصاب إلي أن مخ الانسان الذي لا يشكل اكثر من2% من وزنه( أي نحو1 إلي1.5 كيلو جرام في المتوسط) يتحكم في جميع انشطته الذهنية والبدنية.
ويتكون مخ الانسان من كتلة بالغة التعقيد من الخلايا والأنسجة العصبية الممتدة من الحبل النخاعي الشوكي, والمحتواه في داخل الجمجمة. وتنقسم هذه الكتلة العصبية بالغة التعقيد إلي وحدات رئيسية ثلاث علي النحو التالي:
(1) البصلة المخية, أو النخاع المستطيلMedullaoblongata وتصل المخ بالحبل العصبي المركزي المعروف باسم الحبل النخاعي الشوكيSpinalCord ليكونا معا الجهاز العصبي المركزي, النخاع المستطيل ويقوم بتنظيم عدد من وظائف الاعضاء الأساسية والتنسيق بينها, وذلك من مثل: التنفس, ضغط الدم, دقات القلب وغيرها, ويعرف باسم الجزء الأسفل أو الخلفي من المخTheHindbrain.
( ب) المخيخTheCerebellum: ويوجد فوق النخاع المستطيل, ويعرف أحيانا باسم الجزء الأوسط من المخTheMidbrain ويقوم بالتنسيق بين العمليات العضلية المعقدة من مثل انتصاب القامة, وحركات الأطراف.
ويكون كل من النخاع المستطيل( الجزء الخلفي من المخ) والمخيخ( الجزء الوسطي من المخ) ما يعرف باسم جذع المخ:TheBrainStem.
( جـ) المخTheCerebrum ويعرف أحيانا باسم الجزء الأمامي من المخTheForebrain ويمثل أكبر الأجزاء الثلاثة حجما, وتتركز فيه عمليات التلقي من جميع مراكز الحس في الجسم, ومراكز تحليلها, والتنسيق بينها وتكاملها. وكذلك تتركز فيه مراكز جميع الأنشطة العقلية والسلوكيات الذكية.
ويتغطي المخ بطبقة سميكة نسبيا من الخلايا العصبية تعرف باسم المادة الرماديةTheGrayMatter ويربطها مع بعضها البعض ومع باقي أجزاء الجهاز العصبي المركزي طبقة خيطية دقيقة توجد اسفل منها وتعرف باسم المادة البيضاءTheWhiteMatter وتعرف الطبقتان باسم غطاء المخTheCerebralCortex ويتعرج سطح المخ بالعديد من الطيات المقعرة والمحدبة المتداخلة في بعضها البعض بشكل فائق التعقيد.
ويقسم المخ إلي أربعة فصوص رئيسية( لكل منها وظائفه الخاصة به, كما يلي:
(1) الفص الجبهي أو الأمامي(TheFrontalLobe): ويقع في الجزء الأمامي من المخ ممثلا أكبر أجزائه, ويعتبر مركز التحكم في العواطف والمشاعر, والذاكرة, واللغة, وقدرة الحكم علي الاشياء, والتحكم في البواعث, ومثيرات الاندفاع, وفي العلاقات الاجتماعية وفي حركة معظم أجزاء الجسم, وفي القدرة علي حل المشاكل, وعلي أخذ المبادرة, وعلي التلقائية, وعلي غير ذلك من الصفات الشخصية, وتتركز أغلب هذه الصفات في غطاء مقدمة هذا الفص الأماميThepre-Frontalarea الذي يعرف باسم غطاء مقدمة الفص الجبهي للمخThePre-FrontalCortex ويقع هذا الغطاء خلف الجبهة تماما في المسافة بين العينين ومنبت شعر الرأس ولذلك فهو المقصود بالتعبير القرآني( الناصية).
وقد ثبت بالتجربة أن الناصية( غطاء مقدمة الفص الجبهي للمخ) تتحكم في الإرادة, والقدرة علي التخطيط, واتخاذ القرارات, والحكم علي الأشياء, والتمييز بينها, والتفاعل مع الآخرين, والتبصر في الأمور, والتحكم في المشاعر, والثبات العاطفي, والقدرة علي ضبط السلوك, وعلي مواجهة المشاكل, وعلي الشعور بالمسئولية, وغير ذلك من الوظائف العقلية العليا والصفات المحددة لشخصية الانسان الفرد.
ويأتي خلف تلك المقدمة بقية الفص الأمامي ويقع في غطائه مراكز التحكم في الحركة ولذا يعرف باسم غطاء الجزء المخي المرتبط بالحركةTheMotorAssociationCortex, وبالاضافة إلي تحكمه في التنسيق بين حركات مختلف اجزاء الجسم, يقع فبه مركز التخيل, وفي وسطه مركز التحكم في الكلام وفي الحدس والتوقع( منطقة بروكا=Broca'sArea).
ولما كان غطاء مقدمة الفص الجبهي للمخ له كل هذه القدرات الحاكمة لشخصية الانسان, وكان وضعه خلف الجبهة مباشرة أو ما يعرف بالناصية كان الوصف القرآني لجبهة كافر مثل أبي جهل بأنها ناصية كاذبة خاطئة سبقا علميا مبهرا تقدم علي العلوم المكتسبة بأكثر من اثني عشر قرنا.
(2) الفص الجداري(TheParietalLobe) ويقع في قمة المخ, خلف الفص الجبهي مباشرة, وبه مراكز التوجيه المكاني, والتمييز بين الأشكال والأحجام والتضاريس المختلفة, وبه مراكز الاتجاهات, ومراكز القدرات الحسابية, ومراكز التعبير عن العواطف وفهمها.
(3) الفص الصدغي(TheTemporalLobe) ويوجد أسفل الفص الجداري, وبه مراكز التحكم في السمع, وفي كل من ذاكرتي الكلام والأصوات.
(4) الفص الخلفي(TheOccipitalLobe) ويقع في خلف المخ, وفي قاعدته مركز الإبصار, وفوقه منطقة القراءة والذاكرة البصرية, والمنطقة المصاحبة للرؤية, والتي إذا تعرضت للتلف فإن صاحبها يري ولكنه لا يستطيع التمييز بين ما يراه.
من هذا الاستعراض السريع يتضح أن غطاء مقدمة الفص الجبهي من المخThePre-FrontalCortex الذي يقع خلف عظام الجبهة تماما, في المسافة بين العينين ومنبت شعر الرأس هو المقصود بتعبير الناصية في القرآن الكريم, وقد ثبت علميا, وبتجارب قابلة للتكرار والاعادة, وبدراسات سريرية عديدة أن هذا الجزء من مخ الانسان يحوي مراكز التفكير والتخطيط واتخاذ القرار, و مراكز الإرادة الانسانية, وغير ذلك من الوظائف العقلية العليا, ومن ثم فإن في صلاحه صلاحا لصاحبه, وفي فساده فسادا له ودمارا في الدنيا والآخرة. ومن هنا كان وصف القرآن الكريم لناصية كافر مجرم مثل أبي جهل بأنها( ناصية كاذبة خاطئة) سبقا علميا لكل المعارف المكتسبة بأكثر من اثني عشر قرنا من الزمان, ولا يمكن لعاقل أن يتخيل مصدرا لهذا العلم غير الله الخالق, الذي أنزل القرآن الكريم بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه( اللغة العربية), وحفظه حفظا كاملا علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية وإلي قيام الساعة, حتي يبقي شاهدا علي الناس كافة بأنه كلام الله الخالق.
فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة سيد الأنام: سيدنا محمد بن عبدالله الذي ختم الله ببعثته النبوات, وبرسالته كل الرسالات, وأكمل بها الدين, وأتم النعمة علي عباده الصالحين, والحمد لله رب العالمين الذي لا شبيه له من خلقه, ولا شريك له في ملكه, ولا منازع له في سلطانه, الغني عن الصاحبة والولد لأنهما من صفات المخلوقين, وهو ـ تعالي ـ منزه عن جميع صفات خلقه, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.