المقالة السادسة حول اللغة : دافع عن الاطروحة القائلة : " أن اللغة منفصلة عن الفكر وتعيقه " الاستقصاء بالوضع
I- طرح المشكلة :
تعد اللغة بمثابة الوعاء الذي يصب فيه الفرد أفكاره ، ليبرزها من حيز
الكتمان الى حيز التصريح . لكن البعض أعتقد ان اللغة تشكل عائقا للفكر ،
على اعتبار أنها عاجزة عن إحتوائه والتعبير عنه ، مما يفترض تبني الاطروحة
القائلة ان اللغة منفصلة عن الفكر وتعيقه ، ولكن كيف يمكن الدفاع عن هذه
الاطروحة ؟
II- محاولة حل المشكلة :
1- أ - عرض الاطروحة كفكرة :
يرى أنصار الاتجاه الثنائي ، أن هناك انفصال بين الفكر واللغة ، و أنه لا
يوجد تناسب بين عالم الافكار وعالم الالفاظ ، حيث ان ما يملكه الفرد من
أفكار و معان يفوق بكثير ما يملكه من الفاظ وكلمات ، مما يعني ان اللغة لا
تستطيع ان تستوعب الفكر او تحتويه ، ومن ثــــمّ فهي عاجزة عن التبليغ او
التعبير عن هذا الفكر .
1- ب - مسلمات الاطروحة : الفكر أسبق من اللغة و أوسع منها ، بحيث ان الانسان يفكر بعقله قبل ان يعبر بلسانه .
1- ج – الحجة : كثيرا
ما يشعر الانسان بسيل من الخواطر والافكار تتزاحم في ذهنه ، لكنه يعجز عن
التعبير عنها ، لانه لا يجد الا الفاظا محدودة لا تكفي لبيانها ، وعلى هذا
الاساس كانت اللغة عاجزة عن إبراز المعاني المتولدة عن الفكر ابرزا تاما
وكاملا ، يقول أبو حيان التوحيدي : " ليس في قوة اللغة ان تملك المعاني "
ويقول برغسون : " اننا نملك افكارا اكثر مما نملك اصواتا "
- اللغة وُضعت اصلا للتعبير عما
تواضع او اصطلح عليه المجتمع بهدف تحقيق التواصل وتبادل المنافع ، وبالتالي
فهي لا تعبر الا على ما تعارف عليه الناس ( أي الناحية الاجتماعية للفكر )
، ويبقى داخل كل فرد جوانب عميقة خاصة وذاتية من عواطف ومشاعر لا يستطيع
التعبير عنها ، لذلك كانت اللغة عاجزة عن نقل ما نشعر به للآخرين ، يقول
فاليري : أجمل الافكار ، تلك التي لا نستطيع التعبير عنها .
- إبتكار الانسان لوسائل التعبير بديلة عن اللغة كالرسم و الموسيقى ما يثبت عجز اللغة عن استيعاب الفكر و التعبير عنه .
2- تدعيم الاطروحة بحجج شخصية ( شكلا ومضمونا ) :
تثبت التجربة الذاتية التي يعيشها كل انسان ، أننا كثيرا ما نعجز عن
التعبير عن كل مشاعرنا وخواطرنا وافكارنا ، فنتوقف اثناء الحديث او الكتابة
بحثا عن كلمة مناسبة لفكرة معينة ، أو نكرر القول : " يعجز اللسان عن
التعبير " ، او نلجأ الى الدموع للتعبير عن انفعالاتنا ( كحالات الفرح
الشديد ) ، ولو ذهبنا الى بلد اجنبي لا نتقن لغته ، فإن ذلك يعيق تبليغ
افكارنا ، مما يثبت عدم وجود تناسب بين الفهم والتبليغ .
3- أ – عرض منطق خصوم الاطروحة :
يرى انصار الاتجاه الاحادي ، أن هناك اتصال ووحدة بين الفكر واللغة ، وهما
بمثابة وجهي العملة النقدية غير القابلة للتجزئة ، فاللغة والفكر شيئا
واحدا ، بحيث لا توجد افكار بدون الفاظ تعبر عنها ، كما انه لا وجود لالفاظ
لا تحمل أي فكرة او معنى . وعليه كانت اللغة فكر ناطق والفكر لغة صامتة ،
على الاعتبار ان الانسان بشكل عام يفكر بلغته ويتكلم بفكره . كما أثبت علم
النفس ان الطفل يولد صفحة بيضاء خالية من أي افكار و يبدأ في اكتسابها
بموازاة مع تعلمه اللغة . وأخيرا ، فإن العجز التي توصف به اللغة قد لا
يعود الى اللغة في حد ذاتها ، بل الى مستعملها الذي قد يكون فاقدا لثروة
لغوية تمكنه من التعبير عن افكاره .
3- ب – نقد منطقهم :
لكن ورغم ذلك ، فإن الانسان يشعر بعدم مسايرة اللغة للفكر ، فالادباء مثلا
رغم امتلاكهم لثروة لغوية يعانون من مشكلة في التبليغ ، وعلى مستوى الواقع
يشعر أغلب الناس بعدم التناسب بين الفكر واللغة .
III- حل المشكلة :
وهكذا يتضح ان هناك شبه انفصال بين اللغة والفكر ، باعتبار ان الفكر اسبق
واوسع من اللغة ، وان اللغة تقوم بدور سلبي بالنسبة له ، فهي تعيقه وتفقده
حيويته ، مما يعني ان الاطروحة القائلة : " أن اللغة منفصلة عن الفكر
وتعيقه " اطروحة صحيحة .
المقالة السابعة حول اللغة أيضا : السؤال : يقول هيبوليت : « إذا فكرنا بدون لغة ، فنحن لا نفكر » دافع عن الأطروحة التي يتضمنها القول . الاستفصاء بالوضع
i - طرح المشكل : اذا كانت اللغة اداة للفكر ، بحيث يستحيل ان يتم التفكير بدون لغة ؛ فكيف يمكن اثبات صحة هذه الفكرة ؟
ii - محاولة حل المشكل :
1-أ- عرض الموقف كفكرة : ان الفكر لا
يمكن ان يكون له وجود دون لغة تعبر عنه ، إذ لا وجودلأفكار لا يمكن للغة
ان تعبر عنا ، حيث أن هناك – حسب انصار الاتجاه الاحادي - تناسب بين الفكر
واللغة ، ومعنى ذلك أن عالم الافكار يتناسب مع عالم الالفاظ ، أي ان معاني
الافكارتتطابق مع دلالة الالفاظ ، فالفكر واللغة وجهان لعملة واحدة غير
قابلة للتجزئة فـ« الفكر لغة صامتة ، واللغة فكر ناطق » .
1- ب- المسلمات : البرهنة: ما يثبت
ذلك ، ما اكده علم نفس الطفل من ان الطفل يولد صفحة بيضاء خاليا تماما من
اية افكار ، ويبدأ في اكتسابها بالموازاة مع تعلمه اللغة ، وعندما يصل الى
مرحلة النضج العقلي فإنه يفكر باللغة التي يتقنها ، فالافكار لا ترد الى
الذهن مجردة ، بل مغلفة باللغة التي نعرفها فـ« مهما كانت الافكار التي
تجيئ الى فكر الانسان ، فإنها لا تستطيع ان تنشأ وتوجد الا على مادة اللغة
».
ومن جهة ثانية ، فإن الافكار تبقى
عديمة المعنى اذا بقيت في ذهن صاحبها ولم تتجسد في الواقع ، ولا سبيل الى
ذلك الا بألفاظ اللغة التي تدرك ادراكاً حسياً ، أي ان اللغة هي التي تخرج
الفكر الى الوجود الفعلي ، ولولاها لبقي كامناً عدماً ، ولذلك قيل : «
الكلمة لباس المعنى ، ولولاها لبقي مجهولاً » .
وعلى هذا الاساس ، فإن العلاقة بين
الفكر واللغة بمثابة العلاقة بين الروح والجسد ، الامر الذي جعل الفيلسوف
الانجليزي ( هاملتون ) يقول : « الالفاظ حصون المعاني » .
2- تدعيم الاطروحة بحجج : أن اللغة تقدم للفكر القوالب التي تصاغ فيها المعاني .
- اللغة وسيلة لإبراز الفكر من حيز الكتمان الى حيز التصريح .
- اللغة عماد التفكير وكشف الحقائق .
- اللغة تقدم للفكر تعاريف جاهزة ، وتزود المفكر بصيغ وتعابير معروفة
- اللغة اداة لوصف الاشياء حتى لا تتادخل مع غيرها .
3-أ- عرض منطق الخصوم : يزعم معظم
الفلاسفة الحدسانيون والرمزيون من الادباء والفنانين وكذا الصوفية ، انه لا
يوجد تناسب بين عالم الافكار وعالم الالفاظ ، فالفكر اوسع من اللغة واسبق
منها ، ويلزم عن ذلك ان ما يملكه الفرد من افكار ومعان يفوق بكثير ما يملكه
من الفاظٍ وكلمات ٍ ، مما يعني انه يمكن ان توجد افكار خارج اطار اللغة .
ويؤكد ذلك ، ان الانسان كثيرا ما
يدرك في ذهنه كما زاخرا من المعاني تتزاحم في ذهنه ، وفي المقابل لا يجد
الا الفاظا محدودة لا تكفي لبيان هذه المعاني . كما قد يفهم امرا من الامور
ويكون عنه فكرة واضحة بذهنه وهو لم يتكلم بعد ، فإذا شرع في التعبير عما
حصل في ذهنه من افكار عجز عن ذلك . كما ان الفكر فيض متصل من المعاني في
تدفق مستمر لا تسعه الالفاظ ، وهو نابض بالحياة والروح ، وهو " ديمومة "
[2] لا تعرف الانقسام أو التجزئة ، أما الفاظ اللغة فهي سلسلة من الاصوات
منفصلة ، مجزأة ومتقطعة ، ولا يمكن للمنفصل ان يعبر عن المتصل ، والنتيجة
أن اللغة تجمد الفكر في قوالب جامدة فاقدة للحيوية ، لذلك قيل : « الالفاظ
قبور المعاني » .
نقد منطقهم : ان اسبقية الفكر على
اللغة مجرد اسبقية منطقية لا زمنية ؛ فالانسان يشعر أنه يفكر ويتكلم في آنٍ
واحد . والواقع يبين ان التفكير يستحيل ان يتم بدون لغة ؛ فكيف يمكن ان
تمثل في الذهن تصورات لا اسم لها ؟ وكيف تتمايز الافكار فيما بينها لولا
اندراجها في قوالب لغوية ؟
iii - حل المشكل :وهذا يعني انه لا
يمكن للفكر ان يتواجد دون لغة ، وان الرغبة في التفكير بدون لغة – كما يقول
هيجل – هي محاولة عديمة المعنى ، فاللغة هي التي تعطي للفكر وجوده الاسمى
والاصح ، مما يؤدي بنا الى القول ان الاطروحة السابقة اطروحة صحيحة .
المقالة الثامثة حول الذاكرة : هل الذاكرة ظاهرة اجتماعية أم بيولوجيةالطريقة : جدلية
I - طرح المشكل :
اختلفت الطروحات والتفسيرات فيما يتعلق بطبيعة الذاكرة وحفظ الذكريات .
فاعتقد البعض ان الذاكرة ذات طبيعة اجتماعية ، وان الذكريات مجرد خبرات
مشتركة بين افراد الجماعة الواحدة . واعتقد آخرون ان الذاكرة مجرد وظيفة
مادية من وظائف الدماغ ؛ الامر الذي يدعونا الى طرح المشكلة التالية : هل
الذاكرة ذات طابع اجتماعي أم مادي بيولوجي ؟
II- محاولةحل المشكل
1-أ- عرض الاطروحة : أنصار النظرية الاجتماعية : اساس الذاكرة هو المجتمع ؛ أي انها ظاهرة اجتماعية بالدرجة الاولى .
1-ب- الحجة :
لأن – أصل كل ذكرى الادراك الحسي ، والانسان حتى ولو كان منعزلا فانه
عندما يدرك أمرا ويثبته في ذهنه فإنه يعطيه إسما ليميزه عن المدركات
السابقة ، وهو في ذلك يعتمد على اللغة ، واللغة ذات طابع اجتماعي ، لذلك
فالذكريات تحفظ بواسطة اشارات ورموز اللغة ، التي تُكتسب من المجتمع
- ان الفرد لا يعود الى الذاكرة
ليسترجع ما فيها من صور ، الا اذا دفعه الغير الى ذلك أو وجه اليه سؤالا ،
فأنت مثلا لا تتذكر مرحلة الابتدائي او المتوسط الا اذا رأيت زميلا لك
شاركك تلك المرحلة ، او اذا وجه اليك سؤالا حولها ، لذلك فإن معظم خبراتنا
من طبيعة اجتماعية ، وهي تتعلق بالغير ، ونسبة ماهو فردي فيها ضئيل ، يقول
هالفاكس : " إنني في أغلب الاحيان حينما أتذكر فإن الغير هو الذي يدفعني
الى التذكر ... لأن ذاكرتي تساعد ذاكرته ، كما أن ذاكرته تساعد ذاكرتي " .
ويقول : " ليس هناك ما يدعو للبحث عن
موضوع الذكريات وأين تحفظ إذ أنني أتذكرها من الخارج ... فالزمرة
الاجتماعية التي انتسب إليها هي التي تقدم إلي جميع الوسائل لإعادة بنائها "
- والانسان لكي يتعرف على ذكرياته
ويحدد اطارها الزماني والمكاني ، فإنه في الغالب يلجأ الى احداث اجتماعية ،
فيقول مثلا ( حدث ذلك اثناء .... او قبل .... و في المكان ..... وعليه
فالذكريات بدون أطر اجتماعية تبقى صور غير محددة وكأنها تخيلات ، يقول : ب .
جاني : " لو كان الانسان وحيدا لما كانت له ذاكرة ولما كان بحاجة إليها " .
1-ج- النقد : لو
كانت الذاكرة ظاهرة اجتماعية بالاساس ، فيلزم عن ذلك أن تكون ذكريات جميع
الافراد المتواجدين داخل المجتمع الواحد متماثلة ، وهذا غير واقع . ثم ان
الفرد حينما يتذكر ، لا يتذكر دائما ماضيه المشترك مع الغير ، فقد يتذكر
حوادث شخصية لا علاقة للغير بها ولم يطلب منه احد تذكرها ( كما هو الحال في
حالات العزلة عندما نتذكر بدافع مؤثر شخصي ) ، مما يعني وجود ذكريات فردية
خالصة .
2-أ- عرض نقيض الاطروحة : النظرية المادية : الذاكرة وظيفة مادية بالدرجة الاولى ، وترتبط بالنشاط العصبي ( الدماغ ) .
2-ب- الحجة : لأن
: - الذاكرة ترتبط بالدماغ ، واصابته في منطقة ما تؤدي الى تلف الذكريات (
من ذلك الفقدان الكلي او الجزئي للذكريات في بعض الحوادث ) .
- بعض امراض الذاكرة لها علاقة
بالاضطرابات التي تصيب الجملة العصبية عموما والدماغ على وجه الخصوص ،
فالحبسة او الافازيا ( التي هي من مظاهر فقدان الذاكرة ) سببها اصابة منطقة
بروكا في قاعدة التلفيف الثالث من الجهة الشمالية للدماغ ، أو بسبب نزيف
دموي في الفص الجداري الايمن من الجهة اليسرى للدماغ ، مثال ذلك الفتاة
التي أصيبت برصاصة ادت الى نزيف في الفص الجداري الايمن من الجهة اليسرى
للدماغ ، فكانت لا تتعرف على الاشياء الموضوعة في يدها اليسرى بعد تعصيب
عينيها ، فهي تحوم حولها وتصفها دون ان تذكرها بالاسم ، وتتعرف عليها
مباشرة بعد وضعها في يدها اليمنى
يقول تين Taine: " إن الدماغ وعاء يستقبل ويختزن مختلف الذكريات " ، ويقول ريبو : " الذاكرة وظيفة بيولوجية بالماهية "
2-ج- النقد :
ان ما يفند مزاعم انصار النظرية المادية هو ان فقدان الذاكرة لا يعود
دائما الى اسباب عضوية (اصابات في الدماغ) فقد يكون لأسباب نفسية ( صدمات
نفسية ) ... ثم ان الذاكرة قائمة على عنصر الانتقاء سواء في مرحلة التحصيل
والتثبيت او في مرحلة الاسترجاع ، وهذا الانتقاء لا يمكن تفسيره الا بالميل
والاهتمام والرغبة والوعي والشعور بالموقف الذي يتطلب التذكر .. وهذه كلها
امور نفسية لا مادية .
3- التركيب ( تجاوز الموقفين )
: ومنه يتبين ان الذاكرة رغم انها تشترط اطر اجتماعية نسترجع فيها صور
الذكريات ونحدد من خلالها اطارها الزماني والمكاني ، بالاضافة الى سلامة
الجملة العصبية والدماغ على وجه التحديد ، الا انها تبقى احوال نفسية خالصة
، إنها ديمومة نفسية أي روح ، وتتحكم فيها مجموعة من العوامل النفسية
كالرغبات والميول والدوافع والشعور ..
الامثلة : إن قدرة الشاعر على حفظ
الشعر اكبر من قدرة الرياضي . ومقدرة الرياضي في حفظ الأرقام والمسائل
الرياضية اكبر من مقدرة الفيلسوف ... وهكذا , والفرد في حالة القلق والتعب
يكون اقل قدرة على الحفظ , وهذا بالإضافة إلى السمات الشخصية التي تؤثر
إيجابا أو سلبا على القدرة على التعلم والتذكر كعامل السن ومستوى الذكاء
والخبرات السابقة ..
III- حل المشكل:
وهكذا يتضح ان الذاكرة ذات طبيعة معقدة ، يتداخل ويتشابك فيها ماهو مادي
مع ماهو اجتماعي مع ماهو نفسي ، بحث لا يمكن ان نهمل او نغلّب فيها عنصرا
من هذه العناصر الثلاث .
ملاحظة : يمكن في التركيب الجمع بين الموقفين ، و ليس من الضروري تجاوزهما
المقالة التاسعة حول السياسة و الاخلاق : هل يمكن إبعاد القيم الاخلاقية من الممارسة السياسية ؟ جدلية .
I- طرح المشكلة :إن
الدولة وجدت لإجل غايات ذات طابع أخلاقي ، مما يفرض أن تكون الممارسة
السياسية أيضا أخلاقية ، إلا أن الواقع يكشف خلاف ذلك تماماً ، سواء تعلق
الامر بالممارسة السياسية على مستوى الدولة الواحدة أو على مستوى العلاقات
بين الدول ، حيث يسود منطق القوة والخداع وهضم الحقوق .. وكأن العمل
السياسي لا ينجح إلا إذا أُبعدت القيم الاخلاقية ؛ فهل فعلا يمكن إبعاد
الاعتبارات الاخلاقية من العمل السياسي ؟
- محاولة حل المشكلة :
1-أ- عرض الاطروحة:يرى
بعض المفكرين ، أن لاعلاقة بين الاخلاق والسياسة ، لذلك يجب إبعاد
الاعتبارات الاخلاقية تماماً من العمل السياسي ، وهو ما يذهب إليه صراحة
المفكر الايطالي " ميكيافيلي 1469 –1527 " في كتابه " الامير " ، حيث يرى
أن مبدأ العمل السياسي هو : « الغاية تبرر الوسيلة » ، فنجاح العمل السياسي
هو ما يحققه من نتائج ناجحة كإستقرار الدولة وحفظ النظام وضمان المصالح
الحيوية .. بغض النظر عن الوسائل المتبعة في ذلك حتى وإن كانت لاأخلاقية ،
بل ويذهب الى أبعد من ذلك ، فيزعم أن الاخلاق تضر بالسياسة وتعرقل نجاحها ،
وان الدول التي تبني سياستها على الاخلاق تنهار بسرعة.
ويوافقه في ذلك أيضاً فيلسوف القوة "
نيتشه 1844 –1900 " ، الذي يرى أن السياسة لا تتفق مع الاخلاق في شيئ ،
والحاكم المقيد بالاخلاق ليس بسياسي بارع ، وهو لذلك غير راسخ على عرشه ،
فيجب على طالب الحكم من الالتجاء الى المكر والخداع والرياء ، فالفضائل
الانسانية العظيمة من الاخلاص والامانة والرحمة والمحبة تصير رذائل في
السياسة . وعلى الحاكم أن يكون قوياً ، لأن الاخلاق هي سلاح الضعفاء ومن
صنعهم .
1 الحجة
وما يبرر ذلك أن المحكوم إنسان ، والانسان شرير بطبعه ، يميل الى السيطرة
والاستغلال والتمرد وعدم الخضوع الى السلطة المنظمة ، ولو ترك على حاله
لعاد المجتمع الى حالته الطبيعية ، فتسود الفوضى والظلم واستغلال القوي
للضعيف ، ويلزم عن ذلك استعمال القوة وجميع الوسائل لردع ذلك الشر حفاظا
على استقرار الدولة ويقائها .
ومن جهة ثانية ، فالعلاقات السياسية
بين الدول تحكمها المصالح الحيوية الاستراتيجية ، فتجد الدولة نفسها بين
خيارين : إما تعمل على تحقيق مصالحها بغض النظر عن الاعتبارات الاخلاقية ،
وإما تراعي الاخلاق التي قد لا تتفق مع مصالحها ، فتفقدها ويكون مصيرها
الضعف والانهيار .
1جـ - النقد :ولكن
القول أن الانسان شرير بطبعه مجرد زعم وإفتراض وهمي ليس له أي أساس من
الصحة ؛ فالانسان مثلما يحمل الاستعداد للشر يحمل أيضا الاستعداد للخير ،
ووظيفة الدولة تنمية جوانب الخير فيه ، أما لجوئها الى القوة فدليل على
عجزها عن القيام بوظيفتها ، والا فلا فرق بين الدولة كمجتمع سياسي منظم
والمجتمع الطبيعي حيث يسود منطق الظلم والقوة .
هذا ، واستقراء ميكيافيلي للتاريخ
إستقراء ناقص ، مما لا يسمح بتعميم أحكامه ، فهو يؤكد – من التاريخ – زوال
الدول التي بنيت على اسس أخلاقية ، غير أن التاريخ نفسه يكشف ان الممارسة
السياسية في عهد الخلفاء الراشدين كانت قائمة على اساس من الاخلاق ،
والعلاقة بين الخليفة والرعية كانت تسودها المحبة والاخوة والنصيحة ، مما
أدى الى ازدهار الدولة لا إنهيارها .
وأخيراً ، فالقوة أمر نسبي ، فالقوي
اليوم ضعيف غداً ، والواقع أثبت أن الدول والسياسات التي قامت على القوة
كان مصيرها الزوال ، كما هو الحال بالنسبة للانظمة الاستبدادية
الديكتاتورية . عرض نقيض الاطروحة :
2-أ-عرض نقيض الاطروحة : وخلافا
لما سلف ، يعتقد البعض الاخر أنه من الضروري مراعاة القيم الاخلاقية في
الممارسة السياسية ، سواء تعلق الامر بالعلاقة التي تربط الحاكم والمحكومين
على مستوى الدولة الواحدة ، أو على مستوى العلاقات بين الدول . ومعنى ذلك ،
أن على السياسي أن يستبعد كل الوسائل اللااخلاقية من العمل السياسي ، وأن
يسعى الى تحقيق العدالة والامن وضمان حقوق الانسان الطبيعية والاجتماعية .
وهذا ما دعا إليه أغلب الفلاسفة منذ القديم ، فهذا " أرسطو " يعتبر السياسة
فرعاً من الاخلاق ، ويرى أن وظيفة الدولة الاساسية هي نشر الفضيلة وتعليم
المواطن الاخلاق . ثم حديثا الفيلسوف الالماني " كانط 1724 –1804 " ، الذي
يدعو الى معاملة الانسان كغاية في ذاته وليس كمجرد وسيلة ، كما دعا في
كتابه " مشروع السلام الدائم " الى إنشاء هيئة دولية تعمل على نشر السلام
وفك النزاعات بطرق سلمية وتغليب الاخلاق في السياسة ، وهو ما تجسد – لاحقا –
في عصبة الامم ثم هيئة الامم المتحدة ، كما دعا الى ضرورة قيام نظام دولي
يقوم على الديمقراطية والتسامح والعدل والمساواة بين الشعوب والامم . ومن
بعده ألـحّ فلاسفة معاصرون على أخلاقية الممارسة السياسية ، أبرزهم الفرنسي
" هنري برغسون 1856 – 1941 " و الانجليزي " برتراند رسل 1871 –1969 " .
2-ب-الحجةإن
الدولة خصوصاً والسياسة عموما ً إنما وجدتا لأجل تحقيق غايات أخلاقية
منعدمة في المجتمع الطبيعي ، وعليه فأخلاقية الغاية تفرض أخلاقية الوسيلة .
كما أن ارتباط السياسة بالاخلاق يسمح بالتطور والازدهار نتيجة بروز الثقة
بين الحكام والمحكومين ، فينمو الشعور بالمسؤولية ويتفانى الافراد في العمل
.
ثم ان غياب الاخلاق وابتعادها من
المجال السياسي يوّلد انعدام الثقة والثورات على المستوى الداخلي ، أما على
المستوى الخارجي فيؤدي الى الحروب ، مع ما فيها من ضرر على الامن
والاستقرار وإهدار لحقوق الانسان الطبيعية ، وهذا كله يجعل الدولة تتحول
الى أداة قمع وسيطرة واستغلال .
2-جـ النقد :
لا يمكن إنكار أهمية دعوة الفلاسفة الى أخلاقية الممارسة السياسية ، إلا
ان ذلك يبقـى مجرد دعوة نظرية فقط ، فالقيم الاخلاقية وحدها – كقيم معنوية –
لا تكفي لتجعل التظيم السياسي قوياً قادراً على فرض وجوده وفرض احترام
القانون ، ولا هي تستطيع ايضاً ضمان بقاء الدولة واستمرارها ، وهو الامر
الذي يؤكد صعوبة تجسيد القيم الاخلاقية في الممارسة السياسية .
3-التركيب : وفي
الواقع أنه لا يمكن الفصل بين الاخلاق والسياسة ، لذلك فغاية الممارسة
السياسية يجب أن تهدف الى تجسيد القيم الاخلاقية وترقية المواطن والحفاظ
على حقوقه الاساسية ، دون إهمال تحقيق المصالح المشروعة التي هي اساس بقاء
الدولة وازدهارها .
III– حل المشكلة :وهكذا
يتضح ، أنه لا يمكن إطلاقا إبعاد القيم الاخلاقية من الممارسة السياسية
رغم صعوبة تجسيدها في الواقع . ومن جهة أخرى ، فالاخلاق بدون قوة ضعف ،
والقوة بدون أخلاق ذريعة للتعسف ومبررللظلم . وعليه فالسياسي الناجح هو
الذي يتخذ من القوة وسيلة لتجسيد القيم الاخلاقية وأخلاقية الممارسة
السياسية .
المقالة العاشرة حول العدالة : هل تتأسس العدالة الاجتماعية على المساواة أم على التفاوت ؟ جدلية
طرح المشكلة :كل
مجتمع من المجتمعات يسعى الى تحقيق العدل بين أفراده ، وذلك بإعطاء كل ذي
حق حقه ، ومن هنا ينشأ التناقض بين العدالة التي تقتضي المساواة ، وبين
الفروق الفردية التي تقتضي مراعاتها ، إذ ان تأسيس العدالة على المساواة
يوقع الظلم بحكم وجود تفاوت طبيعي بين الافراد ، وتأسيسها على التفاوت فيه
تكريس للطبقية والعنصرية ؛ مما يجعالنا نطرح المشكلة التالية : ماهو المبدأ
الامثل الذي يحقق عدالة موضوعية : هل هو مبدأ المساواة أم مبدأ التفاوت ؟
محاولة حل المشكلة :
عرض الاطروحة:يرى
البعض ان العدالة تتأسس على المساواة ، على اعتبار ان العدالة الحقيقية
تعني المساواة بين الجميع الافراد في الحقوق والواجبات وامام القانون ، وأي
تفاوت بينهم يعد ظلم ، ويدافع عن هذا الرأي فلاسفة القانون الطبيعي
وفلاسفة العقد الاجتماعي وكذا انصار المذهب الاشتراكي .
الحجة :-
ويؤكد ذلك ، ان الافراد – حسب فلاسفة القانون الطبيعي - الذين كانوا
يعيشون في حالة الفطرة كانوا يتمتعون بمساوة تامة وكاملة فيما بينهم ،
ومارسوا حقوقهم الطبيعية على قدم المساواة ، لذلك فالافراد سواسية ، فـ«
ليس هناك شيئ اشبه بشيئ من الانسان بالانسان » ، وعليه فالعدالة تقتضي
المساواة بين جميع الافراد في الحقوق والواجبات بحكم بطبيعتهم المشتركة ،
ومادام الناس متساوون في كل شيئ فما على العدالة الا ان تحترم هذه المساواة
.
- اما فلاسفة العقد الاجتماعي ،
فيؤكدون ان انتقال الانسان من المجتمع الطبيعي الى المجتمع السياسي تـمّ
بناءً على تعاقد ، وبما ان الافراد في المجتمع الطبيعي كانوا يتمتعون
بمساواة تامة وكاملة ، لم يكونوا ليقبلوا التعاقد مالم يعتبرهم المتعاقدون
معهم مساوين لهم ، فالمساواة شرط قيام العقد ، وبالتالي فالعقد قائم على
عدالة اساسها المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات .
- في حين ان الاشتراكيين يرون ان لا
عدالة حقيقية دون مساواة فعلية بين الافراد في الحقوق والواجبات ، ولا
تتحقق المساواة دون الاقرار بمبدأ الملكية الجماعية لوسائل الانتاج ، التي
تتيح للجميع التمتع بهذا الحق ، لأن الملكية الخاصة تكرّس الطبقية
والاستغلال وهي بذلك تقضي على روح المساواة التي هي اساس العدالة .
النقد :
إن انصار المساواة مثاليون في دعواهم الى اقامة مساواة مطلقة ، ويناقضون
الواقع ، لأن التفاوت الطبيعي امر مؤكد ، فالناس ليسوا نسخا متطابقة ولا
متجانسين في كل شيئ ، والفروق الفردية تؤكد ذلك ، ومن ثـمّ ففي المساواة
ظلم لعدم احترام الفروق الفردية الطبيعية .
عرض نقيض الاطروحة :وبخلاف
ما سبق ، يرى البعض الاخر ان العدالة لا تعني بالضرورة المساواة ، بل ان
في المساواة ظلم لعدم احترام الاختلافات بين الناس ، ومن هذا المنطلق فإن
العدالة الحقيقة تعني تكريس مبدأ التفاوت ، إذ ليس من العدل ان نساوي بين
اناس متفاوتين طبيعيا . ويذهب الى هذه الوجهة من النظر فلاسفة قدامى
ومحدثين وايضا بعض العلماء في ميدان علم النفس والبيولوجيا .
الحجة :-
فأفلاطون قديما قسم المجتمع الى ثلاث طبقات : طبقة الحكماء وطبقة الجنود
وطبقة العبيد ، وهي طبقات تقابل مستويات النفس الانسانية : النفس العاقلة
والغضبية والشهوانية ، وهذا التقسيم يرجع الى الاختلاف بين الافراد في
القدرات والمعرفة والفضيلة ، وعلى العدالة ان تحترم هذا التمايز الطبقي ،
ومن واجب الدولة ان تراعي هذه الفوارق ايضا وتوزع الحقوق وفق مكانة كل فرد .
- اما ارسطو فاعتبر التفاوت قانون
الطبيعة ، حيث ان الناس متفاوتين بطبيعتهم ومختلفين في قدراتهم وفي ارادة
العمل وقيمة الجهد المبذول ، وهذا كله يستلزم التفاوت في الاستحقاق ؛ فلا
يجب ان يحصل اناس متساوون على حصص غير متساوية ، او يحصل اناس غير متساويين
على حصص متساوية .
- وحديثا يؤكد ( هيجل 1770 – 1831 )
على مبدأ التفاوت بين الامم ، وان الامة القوية هي التي يحق لها امتلاك كل
الحقوق وتسيطر على العالم ، على اساس انها افضل الامم ، وعلى الامم الاخرى
واجب ، هو الخضوع للامة القوية.
- وفي نفس الاتجاه ، يذهب ( نيتشه
1844 – 1900 ) ان التفاوت بين الافراد قائم ولا يمكن انكاره ، فيقسم
المجتمع الى طبقتين : طبقة الاسياد وطبقة العبيد ، وان للسادة اخلاقهم
وحقوقهم ، وللعبيد اخلاقهم وواجباتهم .
- أما انصار المذهب الرأسمالي
فيقيمون العدل على اساس التفاوت ، فالمساواة المطلقة مستحيلة وفيها ظلم ،
إذ لا يجب مساواة الفرد العبقري المبدع بالفرد العادي الساذج ، ولا العامل
المجد البارع بالعامل الكسول الخامل ، بل لابد من الاعتراف بهذا التفاوت
وتشجيعه ، لأن ذلك يبعث على الجهد والعمل وخلق جو من المنافسة بين
المتفاوتين .
- ويؤكد بعض العلماء ان كل حق يقابله
واجب ، غير ان قدرة الافراد في رد الواجب المقابل للحق متفاوتة في مجالات
عدة : فمن الناحية البيولوجية ، هناك اختلاف بين الناس في بنياتهم
البيولوجية والجسمانية ، مما ينتج عنه اختلاف قدرتهم على العمل ورد الواجب ،
لذلك فليس من العدل مساواتهم في الحقوق ، بل يجب ان نساعد أولئك الذين
يملكون افضل الاعضاء والعقول على الارتقاء اجتماعيا ، يقول الطبيب
الفيزيولوجي الفرنسي ( ألكسيس كاريل 1873 – 1944 ) : « بدلا من ان نحاول
تحقيق المساواة بين اللامساواة العضوية والعقلية ، يجب توسيع دائرة هذه
الاختلافات وننشئ رجالا عظماء » . ومن الناحية النفسية ، نجد تمايز بين
الافراد من حيث مواهبهم وذكائهم وكل القدرات العقلية الاخرى ، ومن العبث ان
نحاول مساواة هؤلاء المتفاوتون طبيعيا .
واخيرا ومن الناحية الاجتماعية ،
فالناس ليسوا سواء ، فهناك الغني الذي يملك والفقير الذي لا يملك ،
والملكية حق طبيعي للفرد ، وليس من العدل نزع هذه الملكية ليشاركه فيها
آخرين بدعوى المساواة .
النقد :ان
التفاوت الطبيعي بين الافراد امر مؤكد ولا جدال فيه ، غير انه لا ينبغي ان
يكون مبررا لتفاوت طبقي او اجتماعي او عرقي عنصري . كما قد يكون الاختلاف
في الاستحقاق مبنيا على فوارق اصطناعية لا طبيعية فيظهر تفاوت لا تحترم فيه
الفروق الفردية .
التركيب :ان
المساواة المطلقة مستحيلة ، والتفاوت الاجتماعي لا شك انه ظلم ، وعلى
المجتمع ان يحارب هذا التفاوت ليقترب ولو نسبيا من العدالة ، ولا يكون ذلك
الا بتوفير شروط ذلك ، ولعل من أهمها اقرار مبدأ تكافؤ الفرص والتناسب بين
الكفاءة والاستحقاق ومحاربة الاستغلال .
حل المشكلة :وهكذا
يتضح ان العدالة هي ما تسعى المجتمعات قديمها وحديثها الى تجسيدها ، ويبقى
التناقض قائما حول الاساس الذي تبنى عليه العدالة ، غير ان المساواة – رغم
صعوبة تحقيقها واقعا – تبقى هي السبيل الى تحقيق هذه العدالة كقيمة
اخلاقية عليا .