القيادة
موهبة من الله عز وجل يهبها ويضعها في من يشاء من عباده, وهي خلق عظيم
يخلق في الإنسان منذ الصغر, وطبع ينشأ عليه وجبلة وسجية ليس للإنسان علاقة
أو تدخل بها مثلها مثل البخل والجبن والكرم وغيرها من الصفات التي يقدرها
الله سبحانه وتعالى لخلقه, فلا يملك البخيل أن يكون كريماً, كذلك لا يملك
الجبان أن يكون شجاعاً, كذلك لا يملك غير القائد أن يكون قائداً.
وموهبة القيادة قليلة في البشر فقد تجد في مائة رجل عشرة فرسان ولكن قد لا تجد في الألف رجل قائداً واحداً.
والقيادة
لا تأتي بالتعليم والدراسة ولكنها تصقل بهما وتطور, فغير صاحب الموهبة لا
ينفعه التعليم وغيره, فالقادة قادةٌ منذ الولادة وليس هناك من سبيل غير
ذلك.
وسبب صعوبة وقلة وندرة موهبة القيادة في الرجال يرجع إلى أنها
صفة يجب أن تكون جامعة لعدة صفات وخصال حتى تتشكل بمجموعها شخصية الرجل
القيادي وتظهر في من وهبها الله له وهذه الخصال هي: التواضع, الشجاعة,
الأمانة, حب الغير, الحنكة, الذكاء, القدرة على الإقناع, القدرة على
السيطرة, التخطيط.
أولاً
التواضع وهو خلق حميد، وجوهر لطيف, يستهوي القلوب وهو من أخص خصال المسلمين المؤمنين المتقين قال تعالى:
}فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ آل عمران:159.
والتواضع
ضد الكِبر والتعالي على أحد من الناس, فالقائد يحترم جميع من معه صغيراً
كان أو كبيراً، قوياً كان أو ضعيفاً ولا يفرق بين أحد منهم, فالتواضع يدل
على طهارة النفس ويدعو إلى المحبة والمودة والمساواة, ويمحو الحسد والبغض
والكراهية من قلوب الناس, وفوق هذا كله فإن التواضع يؤدي إلى رضا رب
العالمين وإلى الرفعة والسؤدد, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من تواضع
لله رفعه)(1).
وهو سمة العظماء, وصفة الكرماء, وسجية النبلاء, وهو خلق
المسلم الحق, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلب الشاة, ويخيط النعل,
ويأكل مع خادمه, ويشتري الشيء من السوق بنفسه, ويحمله بيديه, ويبدأ من
يقابله بالسلام ويصافحه, ولا يفرق في ذلك بين صغير أو كبير, حر أو عبد,
فنعم القائد صلوات الله وسلامه عليه.
فمتى ما كان التواضع شيمة وصفة وخصلة للقائد أحبه أفراده وأطاعوه في أمره كله وسمعوا كلامه ونفذوا توجيهاته وانقادوا إليه.
ثانياً
الشجاعة
وهي الجرأة وقوة في القلب, وإقدام على المكاره والمهالك عند الحاجة, وثبات
ورباطة جأش عند لقاء العدو مع الاستهانة بالموت, وهي من عماد الفضائل من
فقدها لم تكمل فيه فضيلة يعبر عنها بالصبر وقوة النفس, فالشجاعة مطلب مهم
من مطالب القيادة لا تتم القيادة الناجحة إلا بها, وأعظم ما ينمي الشجاعة
في الإنسان هو الإيمان بالله وذكره, والتوكل عليه, وكمال الثقة به سبحانه,
وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه, وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه, رفعت الأقلام
وجفت الصحف, ومن الأشياء التي تقوي الشجاعة في قلب الرجل تعويد النفس على
إلقاء الكلمات على الملأ في المنابر والمجالس, وكذلك القراءة والتفكر في
سير الشجعان, وأعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم حيث ثبت في تبليغ الدعوة
وصبر عليها رغم ما لقيه من عنت وتعب وأذى.
ومن عوامل تكوين الشجاعة في
النفوس التأمل في هوان مكانة الجبناء في المجتمعات وانحطاطهم وضعفهم بين
الناس, والتفكر في عواقب المواقف الشجاعة, وقد قيل إن الشجاع محبب حتى إلى
عدوه والجبان مبغض حتى إلى أمه.
والعرب من أكثر أهل الأرض افتخاراً
بالشجاعة من أيام الجاهلية, ومضرب المثل بالشجاعة عند العرب هو عنتر بن
شداد له قصيدة يمتدح فيها شجاعته وهمته وقساوة قلبه على القتال وهي من أروع
ما كتب عن الفخر والشجاعة اقتطع منها قوله:
خُلقتُ من الحديد أشد قلباً
وقد بِلي الحديدُ وما بليتُ
وإني قد شربتُ دم الأعادي
بأقحاف الرؤوس وما رويتُ
وفي الحرب العوان ولدت طفلاً
ومن لبن المعامعِ قد سقيتُ
ثالثاً
الأمانة
نوعان, أمانة مادية وأمانة معنوية, وكلاهما مقصود هنا, فالأمانة المادية
أمانة المال من شخص يودعه لدى شخص آخر, والأمانة المعنوية: هي القيام بحقوق
الله تعالى تجاه دينك وأمتك, والسهر على مجدها ونصرها وسؤددها, والأمانة
خلق نبيل وخصلة حميدة وصفة فاضلة واجب توافرها في القائد, لأنه مؤتمن على
أعظم الأشياء وهي أرواح من معه من الأفراد, ومؤتمن على دينه ووطنه, لذا وجب
أن يكون القائد أميناً حتى يثق به أفراده, واستلزم أن تكون الأمانة
المعنوية والأمانة المادية متلاصقتين لأنهما مكملان لبعضهما البعض, فالخائن
في أحدهما خائن في الثانية لا محالة.
رابعاً
حب الغير:
ضد الأنانية وحب النفس فقط, وهي صفة سامية وخلق رفيع تجعل القائد يلتفت إلى
من حوله من أفراده, ويهتم بهم وبأحوالهم, ويؤثرهم على نفسه, حتى تسود بينه
وبينهم الألفة والمحبة والسؤدد والتفاهم والتواد والتواصل بين القائد
وأفراده, وهي صفة يجب أن يتحلى بها المؤمن, قال الرسول صلى الله عليه
وسلم:( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)
خامساً
الحنكة:
وهي الفطنة والحكمة وسداد الرأي, وقول وعمل ما ينبغي كما ينبغي في الوقت
الذي ينبغي أو وضع الأشياء في مواضعها الصحيحة, وهي صفة واجب توافرها في
القائد, فهي غريزة تؤثر على تصرفه بشكل غير إرادي فتجعله يتصرف بما يقتضيه
الموقف, فيتريث إن كان الموقف يحتاج التريث, ويستعجل إن كان الموقف لا
يحتمل الانتظار, ويراوغ إن كان الموقف يتطلب المراوغة ويقاتل إن كان الموقف
يستلزم القتال, وهي موهبة من الله سبحانه وتعالى، قال تعالى:يُؤْتِي
الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا
كَثِيرًاالبقرة:269.
سادساً
الذكاء: أو الدهاء وهي قدرة
عقلية يستطيع القائد من خلالها على التحليل والتخطيط وسرعة التفكير والتعلم
والاستفادة من التجارب, والقائد الذكي غالباً ما يكون مثابراً, غير مندفع,
مستمع بفهم, مرن في التفكير, دقيق في الأشياء.
واشتهر الكثير من العرب
بالدهاء برز منهم أربعة , معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه, وعمرو بن
العاص رضي الله عنه, والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه, وزياد ابن ابيه, أما
معاوية رضي الله عنه فقال ذات يوم لصديقه عمرو بن العاص رضي الله عنه:(
ياعمرو ما بلغ بك دهاؤك ؟ فقال عمرو: والله يا أمير المؤمنين ما وقعت في
مشكلة إلا وخرجت منها, فقال معاوية: أما أنا فكان دهائي حرزاً لي من أن أقع
في ما يسوؤني).
وقال معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه لما سئل عن
سياسته فقال:( إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي, ولا أضع سوطي حيث يكفيني
لساني, ولو أن بيني وبين العامة شعرة لما انقطعت. قيل له: كيف ذلك؟ قال: إن
جذبوها أرخيتها, وإن أرخوها مددتها).
والذكاء والدهاء وسيلة للانتصار
في معارك الحياة جميعها عن طريق الحيلة والصبر وليس عن طريق القوة
والشجاعة, لأن الذكي فقط هو من يرى أنه لابد من شرف الوسيلة للوصول إلى
أشرف الغايات.
سابعاً
القدرة على الإقناع: إن الإكراه
والمضايقة توجب المقاومة وتورث النزاع بينما الإقناع والمحاورة يبقيان على
الود والألفة ويقودان للتغير وبسهولة ويسر ورضا. والإقناع كما هو الحوار
لغة الأقوياء وطريقة الأسوياء, وما التزمه إنسان إلا كان الاحترام والتقدير
نصيبه من قبل الأطراف الأخرى بغض النظر عن قبوله, والإقناع هو تأثير سليم
ومقبول على القناعات لتغييرها كلياً أو جزئياً من خلال عرض الحقائق بأدلة
مقبولة وواضحة.
ويعتبر الإقناع مهارة من مهارات الاتصال وفناً من فنون
الحوار وآدابه, ولا بد للقائد لكي يكون مقنعاً أن يكون واثقاً من نفسه ومما
يقول, وأن يكون صادقاً فيه, ولابد أن تكون رسالته صادقة وواضحة ويبرهن
عليها بالبراهين والأدلة, ويجب عليه أن يراعي الفروقات الفردية والثقافية
والذهنية, كما يجب علىه أن يبتعد عن الجدال والتحدي, بل يجب أن يكون ليناً
هيناً.
ثامناً
السيطرة: ويقصد بها هنا السيطرة على النفس
والسيطرة على الأوضاع من حول القائد, فالسيطرة على النفس بأن لا يجعل غضبه
وانفعاله يتحكم بتصرفاته, فالقائد القادر على السيطرة على غضبه هو قائد
متماسك وواثق من نفسه, وقليلون هم أولئك القادرون على المحافظة على هدوئهم
وتماسك أعصابهم, لذا تميزوا بالقيادة, وهم حينما ينتابهم غضب عارم يبتسمون
ويتكلمون برفق دون اندفاع أو عصبية, ويحُولون دون السماح للأعداء بأن
يستفزوهم ويفرضوا عليهم سيطرتهم, ولا يسمحوا للأمور الخارجية بالتسرب إلى
حنايا أنفسهم والتحكم بأفعالهم, والسيطرة على النفس سلاح يساعد على تحقيق
الأهداف الصعبة وانفلات الأعصاب والتهور سلاح يدمر صاحبه قبل أن يدمر عدوه.
كما
لابد للقائد أن يفرض سيطرته على الأوضاع من حوله إذا أحس بأن الأمور خرجت
عن نفوذه, وأن يكون قوياً في شخصيته حتى يفرض احترامه لكي يكون قائداً
مقنعاً لمن حوله فيحصل بذلك على الطاعة والولاء.
تاسعاً
التخطيط:
وهي صفة عسكرية واجبة فمن غير المعقول أن يكون القائد عاجزاً عن التخطيط
السليم سواء للمعركة أو غيرها, والتخطيط المقصود هنا هو عملية اتخاذ قرارات
لتحديد اتجاه المستقبل والوصول للهدف المنشود بأيسر الطرق، وعلى القائد أن
يدرك تماماً الأوضاع من حوله سواء الأوضاع الجغرافية أو الأوضاع النفسية,
ويدرسها جيداً حتى يستطيع الاستفادة منها ويستطيع من خلالها أن يغير من
الأوضاع.