ما برحت دول ما يسمى بالعالم الثالث عامة والدول الإسلامية خاصة، تمثل السوق الرابحة لمصانع الأسلحة الغربية والشرقية على حد سواء. فمنذ انتهت الحرب العالمية الأولى وتم اقتسام الغنيمة بين أقطابها المنتصرين، وهذه الدول تتصرف وكأنه قد فرض عليها أن تجعل منتجات مصانع الأسلحة بالدول الكبرى على رأس أولويات خططها التنموية، فما أن ينتهي عقد صفقة إلا ويبدأ عقد صفقة أخرى، مبررا كسابقه بالمحافظة على توازن القوة بالمنطقة وهلم جرّا. تمضي السنون وتتكرر الصفقات التي يدفع ثمنها المواطن من قوت يومه، صابرا مصابرا على أمل التوازن الموعود، والذي قد يؤدي إلى التفوق على العدو، مما يحيي الأمل بالنصر الذي يرفع رأس الأمة ويحرر أرضها ويعيد ما أغتصب من حقوقها، إلا أن هذه الآمال ما تلبث أن تتبخر وتذهب أدراج الرياح أمام الواقع المر الذي تعيشه الأمة، فتوازن القوة لم يتحقق، والعدو لازال يزداد صلفا وغطرسة، ومن هنا يبرز السؤال الكبير؛ أين الخلل؟؟ قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّـهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّـهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}[الأنفال:60]، فالله سبحانه وتعالى قال: {مَّا اسْتَطَعْتُم}، ولم يجعل توازن القوة مع العدو شرطا أساسيا للنصر، وإنما جعل شرط النصر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّـهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، فإذا تحقق بالمؤمنين هذا الشرط القائم على تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, أمكن قتال الكافرين ولو بعدد يقل عن عددهم قال تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّـهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:66].
وبهذا يكون عندنا ثلاث قواعد للتعامل مع العدو، القاعدة الأولى: إعداد القوة حسب الاستطاعة، القاعدة الثانية: تحكيم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بجميع أمورنا الدينية والدنيوية، ثم تأتي القاعدة الثالثة: على شكل خبر بمعنى أمر بوجوب قتال الكفار ولو بنصف عدد قوتهم.
وهذه القواعد الثلاث تنافي إستراتيجية توازن القوة التي يحتج بها قومنا على مدار ستة عقود ماضية، ففي هذه السنين خاضت الأمة عدة معارك مع أعدائها، وفي كل معركة تكون الكفة راجحة لصالح الجندي المسلم إلا أن النتائج تتبدل بالنهاية لمصلحة العدو, في حرب فلسطين عام 1948م التي دخلتها الجيوش العربية من ثلاث جبهات، وكان باستطاعتها أن تجتث عصابات يهود من كل التراب الفلسطيني إلا أنها بليت بقيادة عميلة فرضت عليها من قبل الدول التي أرادت لهذا الورم الخبيث أن يبقى بالجسم العربي. يقول اللواء علي أبو نوار في مذكراته "المخاض القومي": "كنا نحرر بعض المغتصبات الفلسطينية من يهود وتصدر لنا الأوامر من قائد الجيش العربي الذي ينتمي للجنسية الإنجليزية، بالانسحاب منها ليعود اليهود لاحتلالها مرة أخرى". أتبع ذلك قبول الهدنة التي دعت إليها الأمم المتحدة وقبلها الساسة العرب، الأمر الذي مكن يهود من إعادة تنظيم قوتهم بمساعدة الإنجليز مما قلب موازين المعركة لصالحهم، وبهذا خسرت الأمة بفعل السياسة الحرب التي كسبتها في ميدان القتال.
أما حرب التحرير الجزائرية، التي خاضها المجاهدون الجزائريون بكل بسالة مما أرغم أنف قوة الاحتلال الفرنسية بالتراب وجعلها تبادر إلى الانسحاب من الجزائر تجر أذيال الهزيمة، إلا أن العدو كعادته لجأ إلى سياسة المكر والخداع لإجهاض النصر الذي حققه المجاهدون في ميدان القتال، مستعينا بعملائه داخل الجزائر، حيث أضفيت على بعض العلمانيين صفة البطولة الدعائية التي مكنتهم من حكم الجزائر بعد انسحاب المحتل، وبهذا تم إعطاء من لا يملك ثمرة انتصار المجاهدين لمن لا يستحق من العلمانيين، فخسرت الجزائر بالسياسة الاستعمارية ما حققه المجاهدون في ساحات الوغى.
وفي العاشر من رمضان سنة 1393هـ انتصرت كلمة التوحيد التي رفعها جند الإسلام على الجبهة المصرية مع العدو اليهودي, وتم اجتياز أكبر مانع مائي عرفته الحروب الحديثة, وبأسلحة تعتبر بدائية مقارنة بترسانة الأسلحة التي يمتلكها العدو تم تحطيم خط بارليف الإستراتيجي خلال ست ساعات, هذا الخط الذي قال عنه "موشى ديان" وزير دفاع يهود في ذلك الوقت: "على المصريين إذا أرادوا اجتياز خط بارليف أن يبنوا لهم قوة تعادل قوة حلف الأطلسي وحلف وارسو معا" إلا أن نتائج هذه الملحمة العظيمة تبدلت بالنهاية لمصلحة العدو, فالنصر الذي تحقق بالاستمساك بعروة الله الوثقى والتسليم له بكل الأمور {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّـهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ وَإِلَى اللَّـهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [لقمان:22], ضاع بالمزايدة على توازن القوة, فعند ما قال الزعيم المصري القائد الأعلى للقوات المسلحة: "كنت أقاتل دولة إسرائيل, ولكني لا أستطيع أن أقاتل أمريكا", تبدل الحال بهذا القول وأصبحت الثقة بالقوة المادية بدل من الإيمانية التي كان يستشعرها الجنود وهم يتسلقون الساتر الترابي الذي بلغ ارتفاعه عشرين مترًًا, على ضفاف قناة السويس مرددين كلمة الله العليا (الله أكبر) والتي بها تحقق لهم النصر.
إننا لا ننتصر بعدد ولا عدة, وإنما ننتصر بهذا الدين, ومن يشرك مع الله أحد فالله أغنى الشركاء, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»(رواه مسلم).
فعندما قال كسنجر للسادات إننا نعلم أن قواتك تحيط بقوات شارون غربي القناة إحاطة السوار بالمعصم وإنها تتفوق عليها بالعدد والعدة بما نسبته واحد ونصف مقابل واحد لمصلحة مصر, ولكن ثق أن أمريكا لن تسمح لك بالانتصار مرة أخرى, عندها استسلم رئيس مصر لهذا القول ورضي بفك ارتباط القوات المهين الذي فرضه عليه هذا اليهودي الماكر, وضاع بسببه النصر الذي كان محط أنظار الأمة الإسلامية, والذي بتحقيقه سيتحقق تحرير بيت المقدس من رجس الاحتلال اليهودي.
ثم تأتي حرب لبنان عام 1402هـ والتي انتهت بكارثة تهجير الفلسطينيين إلى بقاع بعيدة ومتفرقة بالوطن العربي, حتى لا يكون لهم ارتباط مباشر ببلدهم, وهذا التهجير تم بعد حصار للفلسطينيين في مدينة بيروت استمر أكثر من ثلاثة شهور ,كان الجيش اليهودي خلالها يقف موقفا لا يحسد عليه, فهو أمام خيارين أحلا هما مر إما أن يقتحم بيروت المحصنة في أنفاقها الخدمية تحت الأرض, وهذا يعني مقتلة لأخوان القردة والخنازير لم يشهدوا مثلها حتى بالمحارق النازية أن صدقت روايتهم, أو أن ينسحب من لبنان وهذا يعني خسارة الحرب أمام بضع مئات من المقاتلين الفلسطينيين, مما يعني بتر ذراع دولة يهود الطويلة وتحجيم جيشها الذي لا يقهر حسب زعمهم, فلجأ يهود إلى المعركة التي يجيدون إدارتها في مثل هذه الحالة, فكان تدخل مساعي الراعي الأمريكي عن طريق مندوبهم سيء الذكر, فيلب حبيب الذي تنحدر عائلته من أصول لبنانية, وبدأ رحلاته المكوكية بين الدول العربية, حيث انتهت بياسر عرفات قائد النضال الفلسطيني يرفع أصبعي السبابة والوسطى تعبيرا عن إشارة النصر من على سطح إحدى السفن اليونانية التي أبحرت به وبالمقاتلين الفلسطينيين آلاف الأميال عن حدود فلسطين, ولم يعد إلا بعد توقيع اتفاقية العار المسماة بـ(أوسلو).
ولنا أن نقيس على هذه الملاحم حرب المجاهدين في أفغانستان مع الإتحاد السوفيتي, التي هزمت أكبر قوة على وجه الأرض وتسببت في تفكيك حلف وارسو المنافس الرئيس لحلف الأطلسي, وانتهت بتقاتل المجاهدين فيما بينهم, الأمر الذي حرم الأمة من إقامة دولة إسلامية بهذا البلد الذي بذل المجاهدون, دمائهم رخيصة من أجل إقامتها.
فكل هذه المعطيات تجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا تحسبا لما قد يحدث بالعراق بعد انسحاب قوات الاحتلال الوشيك بإذن الله تعالى, فالأمة عندها إرادة قتالية لتحقيق النصر بالميدان ولكنها لا تملك إستراتيجية سياسية لاستثمار ما يحققه المجاهدون من أبنائها.