كلنا لدينا هموم تقلقنا، وأفكار هائمة في الشك قد تنغص علينا أوقاتنا وتدفعنا أحياناً إلى التساؤل باستمرار حول حياتنا وكيف تسير، وهل نحن سائرون في الاتجاه الصحيح أم لا؟ كيف تعرف أن هذه التساؤلات التي تطفو في ذهنك بين الفينة والأخرى لها ما يبررها؟ وأن عليك فعلاً أن تسائل نفسك؟
ألم يحدث يوماً أن سألت فجأة نفسك وأنت واقف في زحمة الأتوبيس، أو منهك وجالس أمام الكمبيوتر في مكتبك: ما الذي أفعله هنا في هذه اللحظة؟ هل هذا هو مكاني المناسب أم أنني أخطأت الطريق؟ ماذا لو لم تكن هذه الحياة هي الحياة التي أردت أن أعيشها؟ هذه التساؤلات هل هي مشروعة؟ وكيف تميز بين التساؤل النابع من رغبة حقيقية في التغيير؟ وما بين التساؤل الناجم فقط عن موجة كآبة عابرة أصابتك؟
تقول الأخصائية والمحللة النفسية، مونيك دافيد مينار: "إن بعض الأشخاص يأتون إلى العيادة النفسية، لكي يخبروا الأخصائي أنهم يستمتعون بطرح الأسئلة المعقدة على أنفسهم، في ما يخص الحياة والمعيشة اليومية"، وتضيف "أنهم يغلقون على أنفسهم في شك دائم، لا نعرف إذا ما كان بالنسبة إليهم عائقاً أم أنّه متعة في حد ذاته، فنجد مثلاً امرأة تتساءل كل يوم: هل هذا الرجل الذي هو زوجي هل هو فعلاً الرجل المناسب لي، أم أنني أخطأت في الاختيار وعليّ أن أجرب حظي مرّة أخرى؟ ماذا لو كان في إمكاني أن أعثر على شريك حياة أفضل؟".
- قرار مفاجئ:
المساءلة الحقيقية للذات لا تأتي نتيجة سؤال ملح تكرر كثيراً، ولا نتيجة إلحاح من الضمير الذي يريد أن يراجع خطاياه، ولا نتيجة تقييم ذاتي داخلي تم بناء على مقارنة أداء الشخص بأداء أقرانه. المساءلة الحقيقية التي تؤدي إلى التغيير هي تلك التي لا تأتي بعد تفكير عميق، أو تأتي عن قرار يقصده الشخص بكامل إرادته، وإنما تأتي فجأة كأنها تفاحة نزلت من السماء على رأس صاحبها، ومن دون سابق انذار.
تقول مونيك دافيد مينار: "فجأة، كل ما كان يعذبنا وكنا نصطبر عليه أصبح فجأة لا يطاق. الأمر يتعلق هنا بشيء عميق غريزي. عندما يتوق الإنسان إلى التحرر من قيوده فإنّ الإرادة والعقل لا يكونان هما الدافع".
- غريزة إنسانية:
في مواجهة بحر القلق الناتج عن رغبة الفرد في التغيير فإنّه يفضل أحياناً أن يستسلم معتقداً أنّ المهمة مستحيلة. البعض يقول لنفسه: "هل ترى أنت لا تملك ما يكفي من وسائل لكي تحقق ما تطمح إليه من تغيير، ليست لديك المقدرة على تحريك الأشياء لأن أصعب ما في مساءلة الذات هو فك الأغلال التي تقيد الفرد وتعوق حركته. ذلك يتطلب الكثير من القوة والشجاعة أكثر مما يتطلبه الجواب على هذا السؤال الأساسي: كيف يمكن أن يبتعد عما كان يعتقد أنه ذاته وأن يبحث عن الجزء الذي لم يكن يعرفه من نفسه، والذي هو في انتظار أن يعثر عليه؟ المساءلة الناجحة للذات هي تلك التي تقوم على غريزة إنسانية.
تقول المحللة النفسية: "الأمر هنا يتعلق بالتفكير في ماهيتنا، من أنا، وما هي نتائج كوني هكذا؟ فمساءلة الذات لا تعني ترك العمل أو الطلاق أو السفر بعيداً..". يقول المحللون النفسيون إن زوار عياداتهم يأتون في الغالب لطلب النصيحة في فترات تكون معاناتهم قد بلغت درجة لا يمكن تحملها، وأن أي تغيير أو انقلاب يجب أن تكون "طويلة في مدتها". هذا التغيير إما أن يمر في شكل تغيرات عميقة وقاطعة، وإما أن يمر في شكل تغييرات تدريجية يمكن ملاحظتها والشعور بها في علاقاتنا مع الآخرين ومع أنفسنا والمريض هو من يختار طريقة التغيير التي يرتاح إليها، فلكل واحد أسلوبه في التعامل مع ما يواجهه من صعوبات.
- تغيير تدريجي:
ن.ل ، هي مريضة اختارت أن تتغير تدريجياً بعد أن لاحظت أنها بدأت تختنق من شدة المعاناة، وتقول: "عندما أدركت أن حياتي تضيع مني هباء، بدأت أتغير تغيراً كبيراً لكن تدريجياً، قررت أن أترك العمل، وبدأت في الاستعداد لذلك، وبدأت أراجع دروسي في العمل خلال استراحة الغداء حتى أحقق حلمي وألتحق بالجامعة. كانت عائلتي تنظر إليّ باستغراب، كوني كبرت في السن وقررت العودة للدراسة، لكنني كنت عازمة على أن أحقق حلم الدراسة، وأصبح أستاذة. أشعر كأنني كنت متأخرة عن نفسي لسنوات، والآن فقط أصبح كل شيء سهلاً بالنسبة إليّ ومتجانس وانسيابي".
القرارات التي يتم اتخاذها بعد مراجعة النفس ومساءلة الذات، تمكن الفرد من القطيعة مع ما يسميه مونيك دافيد مينار "طريقة كارثية في التعامل مع أفراح الحياة ومعاناتها، لهذا في النهاية يتمكن الإنسان الذي يسائل ذاته من أن ينظر إلى الأفكار التي يحملها عن نفسه وجهاً لوجه، يتعرف إليها ويكتشف أنها لا تناسبه ثمّ يتخلي عنها، يتركها ويواصل حياته". يقول "بعد التغيير يعود الإنسان لاحتضان جزء منه، ذلك الجزء الذي كان مغلقاً عليه بقفل ثقيل. فيصبح أكثر حرِّية وأكثر سعادة، وفجأة يصبح الأفق أمامه واسعاً جدّاً".