يحملون شهادات ميلاد جزائرية، يتكلمون العربية بجدارة، يستخرجون وثائقهم من شبابيك الحالة المدنية، شأنهم شأن الجزائريين، هؤلاء جيل جديد من الجزائريين تجري في عروقهم دماء صينية نتيجة الزواج المختلط بين الجزائريين والصينيين، الذي اصبح رائجا منذ تهافت الآلاف من الجنس الاصفر على الجزائر، وتعايشوا لمدة تزيد عن 12 سنة، بينهم وبين الجزائريين، تزوجوا فيما بينهم دون عقد وأسسوا لبداية جيل جديد بشعر صيني وعيون ضيقة ووجه دائري، لكنهم في الحقيقة جزائريون بالنسب، سواء من أم جزائرية أو أب جزائري، ومنهم صينيون ولدوا على التراب الجزائري، حيث تزوج الصينيون فيما بينهم، وأنجبوا أطفالا صغارا دون خوف ولا رعب من سياسة الطفل الواحد التي تقيدهم في الصين، ولا تجبر السيدة الصينية الحامل على الاراضي الجزائرية بطفلها الثاني أو الثالث من الاجهاض، كما هو الحال في الصين، هذا المزيج البشري الجديد في الجزائر ينمو ويتكاثر من داخل "مدن" الصينية خلقت في قلب المجتمع الجزائري.
ليس بعيدا عن مقبرة العالية في حي باب الزوار شرق العاصمة، نشأت اكبر الاحياء الصينية بالجزائر، حي تقودك إليه طريق مهترئة غارقة في الوحل وسط تجمعات عمرانية تضم عشرات الفيلات ذات الطوابق العالية، سيطر على هذا الحي عدد كبير من الصينيين توافدوا الى الجزائر منذ عشر سنوات، كأياد عاملة في ورشات مشاريع الوكالة الوطنية لترقية السكن "عدل"، لكنهم استقروا مع عائلاتهم وأبنائهم بشكل دائم في الجزائر في الحي الشهير "بوسحاقي"، وخلقوا مجتمعا صينيا بأتم معنى الكلمة يطلقون عليه "تشاينا تاون" أو المدينة الصينية، يسيطرون من خلاله على السوق الجزائرية واحتياجاتها، ويديرون رؤوس اموال بالملايير من مستودعات مظلمة وغرف صغيرة استأجروها من الجزائريين بأسعار تتراوح ما بين 4 و5 ملايين شهريا، وبكبسة زر على جهاز حاسوب محمول، يقومون بصفقات تجارية كبيرة يغرقون الجزائر بـ"السباط" الشينوي والمفروشات والألبسة، وعلمنا أن أكبر مسوقة للأحذية الصينية في العالم تدعى "جين" عاشت في الحي لمدة سنوات، درست خلال إقامتها احتياجات السوق الجزائرية، وهي أول من أدخل الحذاء الصيني الى الجزائر.
عندما دخلنا الحي المعزول بدا لنا مهجورا، لكن سرعان ما بدأت تتوافد شاحنات النقل الثقيل تحمل حاويات من ميناء الجزائر، التف حولها عشرات من "الحمالين" الجزائريين لتفريغ السلع القادمة من الصين في شكل رزم مرقمة وإدخالها إلى مستودعات مظلمة، في حين كان الصينيون اصحاب السلع يجلسون في محلاتهم خلف مكاتب أمام أجهزة كمبيوتر يديرون العمليات التجارية، ثم بدأت السيارات النفعية على متنها جزائريين قدموا من كل الولايات يشترون رزما من السلع بالجملة، ويدفعون "كاش" برزم الاوراق النقدية ذات الالف دينار فعلمنا أن الصينيين في حي "بوسحاقي" يديرون اكبر منطقة "حرة" للتجارة بعيدا عن اعين رجال الامن والرقابة وينشط اغلبهم بدون وثائق أو سجل تجاري، ويتعاملون مع اربع من كبار مكاتب العبور في الجزائر العاصمة، الذين ينشطون في الاستيراد والتصدير، أشهرهم صاحب مكتب استيراد وتصدير من جنسية مصرية، متزوج بسيدة صينية قبطية تعرف عليها في مصر تدعى مريم وأتم مراسيم الزواج وعقد القران بالجزائر منذ سنتين تقريبا وبدفتر عائلي جزائري، يتولى هذا الشخص عمليات الاستيراد من الصين لصالح هؤلاء الصينيين مقابل حركة اموال ضخمة.
ويستورد الصينيون سلعا في الحاويات ذات الحجم 77 مترا مكعبا، حيث تبلغ تكلفة استئجار المتر الواحد لنقل السلع من الصين الى الجزائر 3.7 مليون سنتيم، اي ان الحاوية تستأجر بأكثر من 250 مليون سنتيم.
.
من البوذية إلى الإسلام من أجل الزواج من جزائري
في حي "تشاينا تاون" كما يعرف لدى عامة سكان باب الزوار، يقطن الصينيون رفقة عائلاتهم وأبنائهم الذين ولدوا في الحي الجزائري، وسجلوا بشهادات مستخرجة من سجل الحالة المدنية ببلدية باب الزوار، ويتكلم أطفالهم العربية و"العامية" وكأنهم جزائريون، من بينهم الطفل "نونو" وهو صيني الملامح بشعره وعينيه، لكنه يتكلم العربية بطلاقة، ويرتدي لباسا رياضيا بألوان الفريق الوطني، ويغني "معاك يا الخضرا ديري حالا" يحب الشاي كثيرا، ويستمتع بأكل "السباغيتي" وهي الاكلة المفضلة لدى كل العائلات الصينية.
اقتربنا من والده وهو صيني يقطن بحي بوسحاقي منذ سبع سنوات لكنه رفض التحدث إلينا قائلا "خاطيني" وأشار لنا بيده الى محل "ماو" وهو شاب في الاربعين من العمر قدم من منطقة "شين ديا" الواقعة بولاية "شانغهاي" جنوب شرق العاصمة بكين، يستأجر منذ خمس سنوات محلا مساحته حوالي 16 مترا مربعا بـ6 ملايين سنتيم شهريا، يتاجر في المفروشات بكل أنواعها، سألنا عن عائلته فقال أن زوجته تنام في الأعلى، أما أبناؤه الثلاثة فهم في الصين، فخلف ستار من القماش يفصل المحل عن "بيته" رفعنا رأسنا فوجدنا علية أو كما تسمى "سدة"بالأخشاب في أعلى نهاية المحل موصولة بسلم خشبي قصير وضيق يقود الى غرفة نوم صغيرة تشبه الصندوق الخشبي لتربية الحيوانات الأليفة، حيث يعيش الزوجان منذ سنوات، وهو حال كل الصينيين تقريبا في الحي، حيث يتخذون من محلاتهم زاوية صغيرة يهيئونها في شكل غرفة من الاخشاب يعيشون فيها لفترة طويلة رفقة ابنائهم الصغار، ويطبخون على موقد من الغاز فوق طاولة صغيرة وهي المطبخ.
إنهم يعملون في أسوأ الظروف الاجتماعية ويعيشون حياة "الجرذان" على حد قول الجزائريين في المستودعات والغرف المظلمة كالجحور ويفترشون "الكرتون"، لا يحبون رجال الأمن ولا الغرباء، ولا يتواصلون مع اي شخص لا تربطهم به علاقة تجارية أو منفعة، استطعنا وبصعوبة كسب ثقة البعض منهم ليحدثونا عن حياتهم في الجزائر وكيف استقروا الى جوار الجزائريين، وشكلوا خليطا بشريا بزواجهم من جزائريين وجزائريات.
في العنوان "152 تشاينا" وهو محل صغير مقسم إلى قسمين محل تجاري وغرفة للحياة العائلية، تعيش "تشون ين" سيدة رقيقة وناعمة تتحدث العربية بشكل مفهوم تنام بين ذراعيها ابنتها وهي طفلة رائعة الجمال بيضاء البشرة تبلغ من العمر سنة تقريبا، تدعى "آية"، ملامحها جزائرية تشبه والدها الشاب الجزائري "نبيل" الذي لم يكمل الثلاثين من عمره من ولاية قسنطينة، تعرف الى هذه السيدة في معرض الجزائر الدولي بقصر المعارض وتزوج بها وتركت الديانة البوذية واعتنقت الاسلام وغيرت اسمها إلى "سونيا".
أمثلة كثيرة عن الزواج المختلط بين جنسيتين مختلفتين صينيين وجزائريين، فوجد الشباب الجزائري في الصينيات زوجات مثاليات على حد قولهم، إنهن غير مكلفات، فلا يكلف الزواج من صينية سوى فستان زفاف أحمر اللون، في حين يستفيد الزوج الجزائري من "امتيازات كبيرة" تمنحها له العائلة الصينية بعد الزواج من ابنتها، والبعض يقول إنه من يتزوج صينية يمنحونه مبلغا ماليا كبيرا ويساعدوه في دخول عالم التجارة.
في المقابل تعرفنا على الشاب علي واسمه الاصلي "تسوغا" وهو صيني من مدينة "ليسوي" عمره 22 عاما يعيش في الجزائر منذ ثلاث سنوات، اعتنق الاسلام في مسجد باب الزوار، ويصلي التراويح في رمضان، تعرف إلى فتاة جزائرية وأحبها، يقول إنها من ولاية تلمسان، وعرض عليها الزواج لكنها "نصبت "عليه وجردته من أمواله، وهو يحضر لمغادرة الجزائر دون رجعة.