هل العلاقات الدولية حروب وصراعات أو تحالفات وأحلاف؟ وهل هي سياسة بالمعنى الضيق وحسب؟
تتعدد المناهج المستخدمة في دراسة العلاقات الدولية، وإن كانت تلك المناهج تتدرج ضمن مجموعتين رئيسيتين هما: مجموعة المناهج التقليدية، ومجموعة المناهج المعاصرة. ومن أشهر المناهج التقليدية، المنهج التاريخي، والمنهج القانوني، والمنهج الواقعي أو منهج سياسات القوة، ومنهج المصالح القومية.
وبالنسبة للمنهج التاريخي فإنه يعلق أهمية كبرى على تطور التاريخ الدبلوماسي، وذلك على أساس أن للعلاقات الدولية في صورها ونماذجها المعاصرة جذورًا وامتدادات تاريخية سابقة، كما ينسب إلى هذا المنهج مزايا أخرى عديدة منها ما يتمتع به من قدرة على تحري الأسباب التي تكمن وراء نجاح أو إخفاق قادة تحري الأسباب التي تكمن وراء نجاح أو إخفاق قادة الدولة في انتهاج سياسات خارجية معينة في ظروف دولية معينة. كذلك فإن التاريخ يخدم، في اعتقاد أصحاب هذا المنهج، كعمل للتجريب والاختبار للعلاقة التي تنشأ بين الأسباب والنتائج في السياسة الدولية، وذلك من منطلق أن لكل موقف دولي طبيعته وخصائصه المتميزة، وأن مواقف السياسة الدولية لا تتكرر على نفس النحو.
أما المنهج القانوني فإنه يركز بالأساس على العوامل والاعتبارات القانونية التي تحيط بعلاقات الدول ببعضها، ومن أمثلة ذلك: الالتزامات التي تنشأ عن تعاقد الدول مع بعضها بموجب معاهدات أو اتفاقيات أو مواثيق دولية محددة تؤمن بها مصالحها المشتركة، أو تحديد عنصر المسؤولية عن التصرفات التي تلجأ إليها الدول وتمثل خرقًا لالتزاماتها التعاقدية، أو التمييز بين صور الاعتراف الدولي المختلفة وبالتحديد الاعتراف القانوني والاعتراف بالأمر الواقع، أو تقرير الوسائل المتبعة في تسوية المنازعات الدولية سليمًا، ومن ذلك أساليب الوساطة والتوفيق والتحكيم وتقصي الحقائق والمساعي الحميدة، إلخ.
وأما المنهج الواقعي فإنه يستند إلى المنطق الذي يزعم أن القوة هي القاعدة المحورية في العلاقات الدولية، وأنه إذا كانت صراعات القوة تغلف أحيانًا ببضع الشكليات القانونية أو الدواعي والمبررات الأخلاقية، فإن هذا الغلاف الخارجي يجب ألا يخدعنا عن هذه الحقيقة الأساسية التي تتحكم في توازن العلاقات الدولية برمتها. ومن الأسباب البارزة التي تقال في صدد الدفاع عن هذا المنهج، هو أنه يحاول تفسير السلوك الدولي تفسيرًا منطقيًّا عقلانيًّا يستند إلى معطيات الأمر الدولي القائم وحقائقه الثابتة دون أن يتجاوزه إلى تصور العلاقات الدولية من زاوية ما يجب أن تكون عليه على غرار ما يفعل المثاليون.
وفيما يتعلق بمنهج المصالح القومية، فإنه يعتبر أن السعي نحو تحقيق المصلحة القومية للدولة هو الهدف النهائي والمستمر لسياستها الخارجية. بمعنى آخر، فإن المصلحة القومية تشكل عامل الارتكاز الأساسي في تخطيط السياسة الخارجية لأي دولة في العالم، كبيرة كانت أو صغيرة، إلخ.
هذا وقد ظهرت مناهج مختلفة مساعدة أو أدوات تحليل مفيدة من حقول شتى كنظرية المباريات من المنهج الإحصائي، وتحليل النظم، وغيرها.
اتجاهات حديثة
نخلص إذاً أن الدراسة العلمية للعلاقات الدولية شهدت عدة منظورات ساد كل منها مرحلة من مراحل تطور هذه الدراسة، وتبلورت الاختلافات بين هذه المنظورات المتعاقبة، فإذا كانت صورة "سياسات القوى" قد عكست خبرة النصف الأول من القرن العشرين وحتى العقد السابع، فإن خبرة الربع الأخير من هذا القرن قد أبرزت تغيرات هيكلية في السياسات الدولية يترتب عليها عدم ملاءمة دراستها من خلال منظور "سياسات القوى". من ثَمَّ ظهرت الحاجة إلى اتساع النظرة التحليلية التي تركز على الدول فقط، وعلى مفاهيم القوة والصراع أساسًا، وذلك نظرًا لبروز دور فاعلين جدد من غير الدول، ولبروز أهمية موضوعات جديدة تحدث تحولاً في النظام الدولي المعاصر تحت تأثير قوى الاعتماد المتبادل الدولي المعقد، فلقد اقتضت هذه الأوضاع الدولية المتطورة النظر للعالم باعتباره نظامًا من التفاعلات التي يلعب فيها فاعلون آخرون من غير الدول دورًا مهمًّا حول موضوعات سياسية واقتصادية جديدة تخلق عمليات جديدة تتجه بالنظام نحو نوع من التعاون والتكيف وليس نحو العنف والصراع فقط ودائمًا.
وهكذا فإن الاتجاهات الحديثة في دراسة العلاقات الدولية تناولت خصائص أساسية للسياسات الدولية المعاصرة من خلال ثلاثة محاور: الفاعلون الدوليون، نطاق وأولوية الموضوعات، العمليات الدولية.
ويقوم المنظور الجديد على ضرورة الاعتراف بازدياد تعقد هيكل النظام الدولي بسبب تنوع وتعدد الفاعلين بحيث إن دراسة العلاقات الدولية يجب أن تمتد إلى مستويات أخرى غير مستوى التفاعلات الحكومية أي إلى مستويات قومية – فرعية، عبر قومية، فوق قومية.
ويشارك في هذه المستويات فاعلون جدد تركز الاهتمام عليهم ليس نظرًا لحداثتهم ولكن نظرًا لتزايد عددهم عن ذي قبل، ونظرًا لبروز قضايا ومشكلات جديدة فتحت أمامهم سبلاً وفرصًا للتأثير في الساحة الدولية، وإذا كانت بعض الاتجاهات قد تطرفت في تقدير "أزمة الدولة القومية" لدرجة تأكيد بديل الحكومة العالمية المرتقبة؛ فإن اتجاهات أخرى أكثر اعتدالاً تقول ببقاء الدول القومية، ولكن مع تغير في طبيعة دورها. .
أما عن نطاق أولوية الموضوعات التي تمثل محتوى العلاقات الدولية، فإن الرؤية العالمية تفترض عدم وجود مساحات واضحة وثابتة لهذه الموضوعات، تأتي على قمتها دائمًا القضايا العسكرية – الأمنية. ويرتبط هذا الافتراض بتقديرها لطبيعة التغير في دور القوة وفي درجة فعالية الحرب والأداة العسكرية في تحقيق أهداف سياسية خلال عمليات الصراع والمنافسة بين فاعلين جدد وحول اهتمامات جديدة يغلب عليها الطابع الاقتصادي، ومن ثَمَّ تقتضي إدارة الصراع حولها أساليب ومصادر جديدة للقوة غير عسكرية أساسًا.
بعبارة أخرى فإن هذه الرؤية لا تركز على تحليل الاهتمامات الأمنية العسكرية فقط والتي سبق وسيطرت على السياسات الدولية خلال الخمسينيات والستينيات، ولكن تهتم بموضوعات وقضايا جديدة (الانفجار السكاني، أزمة الغذاء العالمي، الموارد الطبيعية، التجارة الدولية، المعونات، التلوث..) تفجرت على نحو يمثل تحديًّا للمجتمع الدولي المعاصر، وأضحى فهمها وما تثيره من مشكلات ضرورة أساسية لفهم العلاقات الدولية المعاصرة، وما يمر به النظام الدولي من تطورات أو تحولات في هيكل علاقات القوة وذلك تحت تأثير متغيرات اقتصادية جديدة. إن هذه القضايا تمثل أهم القوى المؤثرة في إحداث التحول في النظام الدولي المعاصر؛ لأن المفاوضات الساخنة حول المشكلات التي تثيرها ليست إلا محاولات لإعادة فحص معنى ومصادر القوة الدولية.
أما العمليات الدولية التي برز الاهتمام بها والمتمثلة في الاعتماد الدولي المتبادل فإن هذا المصطلح شائع الآن لوصف حالة النظام الدولي، هذا النظام الذي يشهد درجة مرتفعة من الروابط بين الأفراد والجماعات في الدول المختلفة، وفيما بين الحكومات، وفيما بين الأوضاع الداخلية والخارجية، وفيما بين الموضوعات السياسية والاقتصادية على نحو لم يعرف من قبل وذلك نتيجة التطور الهائل في وسائل النقل والاتصال ونتيجة نمو التطور التكنولوجي وتيارات تبادل السلع والأفراد، وهذا الوضع العالمي المتميز هو الذي أبرز – لدى الرؤية الجديدة – الحاجة لأساليب جديدة في التفكير ومفاهيم جديدة لتحليل التفاعلات المتعددة الأبعاد والمستويات. ومن ثَمَّ فإن الاعتماد الدولي المتبادل – كظاهرة، وكمفهوم، وكعملية - يحتل وضعًا مهمًّا في تحليلات هذه الرؤية الجديدة. ومع ذلك تتعدد تعريفاته، وأبعاد تحليله، كذلك تتعدد تقديرات عواقبه على مستقبل تطور أو تحول هيكل وعمليات النظام الدولي المعاصر.
اتجاهات مختلفة
وإذا كانت أدبيات المنظور الجديد قد تناولت الخصائص الثلاث السابقة في تفاعلاتها أو كل على حدة، فإن الاختلافات بين اتجاهات هذه الأدبيات لا يبرز، على صعيد وصف واقع هذه الخصائص، ولكن يبرز حول عواقب ونتائج هذه الخصائص على مستقبل النظام الدولي. هل سيتجه نحو حالة أفضل؟.. أو سيتراجع نحو حالة أسوأ؟ وهنا يمكن بإيجاز الإشارة إلى التمييز بين مجموعتين من الاتجاهات حول عواقب الاعتماد المتبادل الدولي بالنسبة لهيكل النظام الدولي من ناحية، وبالنسبة لمدى اتجاهه نحو مزيد من التعاون أو الصراع من ناحية أخرى. والمجموعة الأولى تتسم بنظرة متفائلة مثالية وتنطلق من فكرة أساسية مؤداها أن الاعتماد المتبادل الدولي إنما يقل بتهديده على استمرار بقاء الهيكل الدولي الحالي الذي يستند أساسًا إلى الدول القومية، حيث لم تَعُد الأخيرة تقدر بمفردها على تحقيق أهداف الأمن القومي والرخاء الاجتماعي. أما المجموعة الثانية فهي تتسم بنظرة متشائمة وواقعية، وهي تعتقد أن إدارة القضايا والمشكلات الجديدة موضع الاهتمام يتسم باستمرار الصراع بين الدول القومية، ولكن لتحقيق أهداف الرخاء وليس الأهداف السياسية التقليدية فقط، ومن ثَمَّ فهي لا تتصور تزايد في آفاق واحتمالات الحلول التعاونية لمشكلات النظام العالمي؛ لأن قوى الاعتماد المتبادل الدولي لا تقود بالضرورة إلى نتائج إيجابية؛ ولذا فإن المستوى المرتفع من الاعتماد لن يدفع إلى ظهور جماعة دولية سلمية، بل على العكس فهو يمكن أن يقود إلى مستوى مرتفع من الصراع، ولهذا كله فإن هذه المجموعة ترى عدم حدوث تحول أساسي في النظام حيث يستمر قائمًا على الدول القومية المتنافسة الساعية لتحقيق مصالحها الذاتية غير التقليدية، أي تحقيق نصيب أكبر من الناتج العالمي، لهذا فإن تزايد الاعتماد المتبادل – في تقديرها - لا يُقَوِّض أركان الدول القومية بقدر ما يؤثر في دورها ووظيفتها.
ولقد واجه هذا المنظور العالمي – سواء في كلياته أو في تفريعاته التي تبرز الاختلافات بين روافده كما رأينا – انتقادات عديدة من أنصار المنظور التقليدي، ومن ناحية أخرى برزت مجموعة من التحليلات التوفيقية التصالحية بين افتراضات ونتائج المنظورين التقليدي والعالمي على أساس أن هناك صورًا للاستمرارية وأخرى للانقطاع في السياسات الدولية المعاصرة، بحيث لا يمكن التمسك بصورة مطلقة بمعطيات وافتراضات ونتائج كل من المنظورين على حدة؛ ذلك لأن كلاًّ من الواقعية والعالمية تقدم منطلقات مهمة لفهم عملية التطورات الدولية؛ لأن العالم أصبح أكثر تداخلاً وتعقدًا مما تصفه كل من الرؤيتين على حدة؛ حيث إن كلاًّ منهما يعبر عن جزء فقط من حقيقة النظام الدولي المعاصر، ومن ثَمَّ فإن هذه الرؤية التوفيقية ترى ضرورة الربط بين إسهاماتهما لتقديم رؤية أكثر اكتمالاً.